نابلس - منال الزعبي - النجاح الإخباري - في الوقت الذي يتكدس فيه الخريجون على أعتاب البطالة التي أثقلت كاهلهم وحدت من عزيمتهم، تبرز لنا قصة تعكس الحقيقة وتدلل على أن النجاح لا يتطلب شهادات وأن فرص العمل تصنع بالإرادة والإيمان، قد يبدو الأمر مستساغا لأشخاص أصحاء مكتملين، لكن أن يخلق هذا الواقع المشرق أخوة من ذوي الإعاقة هنا يكمن الفخر.

في قرية دير بلوط  غرب مدينة سلفيت قدّر الله أن يجمع محمد فاقد البصر ونور وعبد الله من الصم والبكم في بيت واحد ثلاثة أشقاء أكمل كل منهم الآخر وعوضه عما نقصه لمواجهة الحياة.

في الوقت الذي توجه فيه فريق عمل النجاح الإخباري لقرية دير بلوط للقاء الأشقاء والاستماع لقصتهم ورصد تفاصيلها، التقت المراسلة الأم التي كانت عائدة من الأرض تحمل على رأسها حملا ثقيلا فروت قصة أبنائها ولخصت معاناة توجت بالنجاح، قالت: "أنا وزوجي أقارب وربنا رزقنا بأولاد بعانوا من إعاقات مختلفة اشي صم وبكم واشي ضرير، لكن قبلنا هدية رب العالمين، وربيناهم برموش عنينا، علمتهم الدين والإيمان لأنه أساس الحياة، وعرّفتهم انه الدنيا ما بتكمل لحدا".

وأكملت حديثها بعيون تلمع فرحا بحصاد غرسها: "اولادي معاقين بس بحبوا بعض وبتعاونوا والي عنده نقص كمله أخوه، من صغرهم تعلموا كيف يتفاهموا مع بعض باللمس والحركات والتمتمات، كبروا وكبر الأمل والطموح حتى قدروا بمشيئة الله يفتحوا هالمشروع الي هو عبارة عن مخبز وربنا وفقهم".

مخبز آلي بمعدات وأدوات تتطلب الحذر من الأصحاء يديره الأشقاء الثلاثة محمد ونور وعبد الله، الذين أوجدوا لغة اتصال خاصة بينهم مكنتهم من التواصل مع الناس وفتح قلوبهم قبل جيوبهم.

على "العجانة" وقف محمد وهو "ضرير" يضع مكونات العجنة من طحين وماء وخميرة يتلمسها دون أن يراها لكنه يتقن عمله بشكل دقيق، وبعد أن تعجن وتخمّر يسكب العجين بماكنة التقطيع، انتقل إليها يفصل القطع ويرتبها تمهيدا لرقها، وهي المهمة التي تولاها نور بتركيز عالٍ وهدوء إذ لا يسمع ولا يتكلم فقط يرى ويعمل، ومنها إلى الخبز الذي يتابعه الشقيقان بالتناوب دون أي ضجيج، وما إن تخرج وجبات الخبز طازجة شهية حتى يتجمع الزبائن مشدودين لتلك الرائحة المنبعثة من المخبز الذي يضج بالحياة، يسمع محمد تحيتهم ولا يراهم يتفاهم معهم ويوصل طلباتهم لأخيه نور بلمس يديه وجسده فيبادر نور بتلبية طلبات الزبائن وأخذ الحساب، أما الشقيق الثالث عبد الله فيرتاح في البيت حتى ينتهي النهار ليستلم بدوره الفترة المسائية.

وهكذا مخبز كامل بعدته وعتاده يديره ثلاثة أخوة اتحدوا في مواجهة الواقع، تحدوا النقصان بالتكامل فكان الكمال، ثلاثة على قلب رجل واحد تحقيقا لقوله تعالى: "سنشدد عضدك بأخيك".

صورة من البعيد توحي بالتحدي والعزيمة والإصرار إلا أن تساؤلات كثيرة تقتحم إطار هذه الصورة أولها، في البيت الذي جمع عدد كبير من الأبناء فوجدت الأم نفسها بين ثلاثة صبيان وفتاة من ذوي الاحتياجات أي عناء عاشته وأي جهد بذلته؟ وكيف استطاع الأب توفير العناية والرعاية لهؤلاء الأطفال؟ ثم أي مصير سيواجهون في مجتمع محدود الإمكانيات فاقد الطاقات؟!

رحلة حياة شاقة وليست بالأمر اليسير إلا أن الإيمان والقناعة والرضا يحول كل محنة إلى منحة ويصبح أمر الحياة وسط الصعاب محصورا بخيار واحد هو النجاح.

وعن الصعوبات التي واجهت الأخوة قال محمد بابتسامة تبعث الأمل: "ما في شيء سهل، الحمد لله على كل الأحوال، ما في قدامنا (أمامنا) الا إنّا نعيش ونكافح وبفضل الله وفضل أهلي لقينا الدعم والاحتواء، تعلمنا كيف نطلب من الدنيا بقوة وعشان ما نحتاج حدا اخترنا هالمشروع ليكون مصدر رزقنا، والتوفيق من رب العالمين، كثير ناس استنكروا الموضوع بالأول وراهنوا على فشلنا لكن النتيجة أثبتت عكس توقعاتهم وحققنا النجاح".

وأضاف محمد أن المشروع عمره ثماني سنوات استطاعوا خلالها من خلق اسم معروف في القرية وما حولها حتى إن الناس يقصدون مخبزهم ويفضلونه على غيره، مشيراً إلى أنهم يطمحون بتطوير مشروعهم لعمل المعجنات ومختلف أنواع الخبز ما سمحت الإمكانيات".

وأوضح محمد أنه متزوج منذ أربع سنوات وسعيد بحياته رغم أنه لم يرزق بالأطفال إلا أن الأمل بالله كبير أن يرزقه، لافتًا إلى أن عبد الله أيضا تزوج ولديه طفلة هي شمعة البيت المعتم، أما نور فيبحث عن عروس تتقبل صممه وبكمه.

أما نور فوجه رسالة للعالم بلغة الإشارة، وقام شقيقه بترجمتها ، فقال: "أنا سعيد جدا بعملي.. المخبز رجعلي الحياة وحسسني بقيمة وجودي، عنوان نجاحنا التعاون، مع أخوتي ما بحس بنقص أبدا ببتسم وقلبي بضحك وبمارس حياة طبيعية "

في الحياة فرص لا تنتهي لا تنتظر العاجزين  فالإرادة الصادقة لأي إنسان كفيلة بتحطيم قيد الإعاقة والخروج من معمعة المحن بمنح ربانية رائعة.