محمد نمر قنيطة - النجاح الإخباري - (الكبار يموتون والصغار ينسون) طالما قيلت هذه العبارة الصهيونية مع كل عام يمر على الفلسطينيين، يذكرهم بوطنهم الذي سُرق أمام أعينهم في مؤامرة دُبرت بظُلمة مازالت شواهدها منقوشة في أذهان جيل عاشها، أبصرتها عيونهم حينها وبقيت خالدة كخلود ذكريات وطن جميل تحدثوا عنه لأحفادهم ساعات دون ملل ولسان حالهم يقول: "كنا صغارًا ولم ننس ونقشنا الوطن في قلوب أبنائنا على أمل العودة".
اليوم الخامس عشر من مايو تصل النكبة عامها الـ (69)، نكبة شعبٍ ضاع  وطنه فلسطين لتقام على أرضه ما سميت بـ(دولة اسرائيل) وزعموا أمام العالم أنَّ فلسطين أرض بلا شعب، فهل فلسطين كذلك ؟!
الحاج "كامل إبراهيم صيام" (80 عامًا) مواليد قرية "الجية" تبعد عن قطاع غزة قرابة (20) كم ارتسمت بثنايا وجهه خارطة فلسطين وزادت تجاعيدها حدَّة ًوارتفعت نبرة صوته، قائلًا لـ"النجاح الاخباري": "على الرغم من امتلاكي أوراق رسمية تُثبت ملكيتنا لبيوتنا وأرضنا في قرية الجية، ولا داعي لقول ذلك، فذاكرتي هي خير دليل". 
ويضيف: "عشت طفولتي كاملة هناك وأتذكر جيداً البيت وأرض الديوان ومساعدتي لأبي وأعمامي في زراعة الأرض وحصادها"، وتابع بابتسامة ارتسمت على ثغره "كنت أنتظر بشغف الجمعة لأذهب مع أبي لسوق المجدل، كم كنت أحب هذا السوق الكبير".
ويذكر أنَّ "الجية" قرية فلسطينية تبلغ مساحتها (8,500 دونمًا)، ويمر من خلالها خط لسكة قطار واصل بين مصر وفلسطين من الأراضي الغربية للقرية، ويحد أراضي الجية من الغرب نعليا ومن الجنوب والجنوب الغربي بربرة، ومن الشرق والشمال الشرقي بيت طيما، ومن الشمال الغربي المجدل، وتعمد الاحتلال الإسرائيلي إخفاء معالمها بردم الوادي والبئر فيها وهدم المسجد وإزالة بيوتها كاملة.


ومن الجية الزراعية إلى حيفا المدينة، يحضر الماضي الجميل مسرعًا ويداهم ذاكرة الحاج "شفيق عطية إكتيع" (80عامًا) من مدينة حيفا، قائلا لـ"النجاح الاخباري": "الله ما أجملك يا حيفا، من ينسى شارع وادي الصليب الذي ولدت فيه، وشارع الملوك الذي تقطن به خالتي وفي ذات الشارع لعبت ولهوت مع أصدقائي".
ثم يصمت الحاج شفيق ويطول صمته وهو يلقي بجسده على عكازه، تنهد طويلاً وابتسم "درست في مدرسة الوحدة الأميريَّة بحيفا، أتذكر حينما طلب مني الأستاذ محمد دبور أن أقلد صوت الطيور، وكانت جائزتي رحلة إلى أشجار الصنوبر في الكرمل، وذهبت فعلاً ورأيت هناك جنَّة".
شريط الذكريات الجميلة انقطع  فجأة وبُدل بذاكرة الحزن حينما سألت عن ذلك اليوم الأسود يوم النكبة، وعنه يقول الحاج كامل ( أبو صدقي) "أطلقت علينا الكُبانية (موقع عسكري للعصابات الصهيونية) الرصاص ولم تُسعفنا بعض البنادق القديمة بحوزة البعض للدفاع عن أرضنا، غالبية الناس فلاحين عُزل اضطروا للهرب أمام كثافة الرصاص".
ويكمل والحزن يسيطر على ملامح وجهه "نهرب من الجية ليلاً إلى قرية بربرة المجاورة ثم نعود نهاراً، إلى أن اضطررنا لإكمال مسيرنا مشياً على الأقدام ونزلنا في غزة منطقة الرمال وكانت خالية من السكان ثم منطقة التفاح". 
وأوضح الحاج أبو صدقي أنَّهم تركوا خلفهم بيوتهم وأمتعتهم ولم يحملوها معهم لأنَّهم كانوا يدركون حينها أنَّ هجرتهم لأيام أولشهور وسيعودن إلى بيوتهم قريباً، وبعضهم حاول الرجوع للديار والأرض بعد الهجرة لكن قابلتهم العصابات الصهيونية وقتلت ابن عمه جبر وخطفت آخر.  
أما الحاج شفيق (أبو بسام) تحدث عن هذا اليوم بنبرة هادئة وكأنه يلعنها: "كان اليهود في حيفا يتسمون بالضعف، ولكن فجأة نزلوا إلى الشوارع ومعهم الأسلحة رغم منع التجوال الذي فرضه الإنجليزعلينا وحدنا قبل أربعة شهور، وبدأت تتردد الإشاعات بارتكاب الصهاينة المجازر والإنجليز يساندوهم".
واضطر والده أمام إشاعة حصار حيفا وتوقف خطوط القطارات أن يتوجه لغزة عبر القطار حيث يوجد بيت للعائلة هناك في حي الشجاعية، وبقي شقيقه الأكبر في حيفا حيث الثوار يحاولون التصدي للعصابات الصهيونية، وآخرين من أقاربهم وجيرانهم توجهوا لسوريا ولبنان، على أمل أن يعودوا جميعهم إلى حيفا لكن الرحلة طالت واستمرت حتى اليوم.
ويقول "كان أبي يرفض أن يطلق علينا مصطلح مُهاجرين، ورفض في البداية إضافتنا في سجل اللاجئين، وكان يردد دائمًا أيام وسنعود إلى حيفا".
وتعتبر حيفا من أكبر وأهم مدن فلسطين التاريخية تبعد عن القدس قرابة (158كم) إلى الشمال الغربي احتلتها المنظمات اليهودية في أبريل (1948)، بعد عدة معارك ومجازر قامت بها بحق السكان العرب في المدينة وضواحيها، نتج عنها طرد جماعي لمعظم هؤلاء السكان من أحيائهم، واستبدال أسماء الشوارع والمناطق العربية مباشرة بالعبرية.
الحاج شفيق الذي كان متكئاً على عكازه، رفع رأسه وقال بنبرة حادة ومرتفعة متحديًا: "أبي قال سنعود إلى حيفا وأنا أقول سنعود إلى حيفا، التحقت بجيش التحرير عام (1956) لأجل ذلك، وشاركت في حرب الـ (67)، واليوم ابني بسام يقضي عدَّة مؤبدات في سجون الاحتلال من أجل العودة إلى حيفا، وغدًا سيحمل حفيدي شفيق الصغير خارطة فلسطين بيده ويمضي لنفس الطريق، هذا مصيرنا وقدرنا ولن نستسلم".
بذات النبرة والإصرار يتفق الحاج أبو صدقي ويؤكِّد على أنَّه كان يقول للإسرائيليين خلال عمله داخل فلسطين المحتلة، "هذه أرضنا، وهنا بيتنا، وهناك زرعنا القمح والشعير، وسنعود إليها يومًا مهما طال الزمن أو قصر".