نابلس - النجاح الإخباري - سامي أبو سالم- غزة
بات من الواضح أن تهديدات الحكومة الاسرائيلية ب"السيطرة الكاملة" على غزة هي تهديدات حقيقة وجادة، لكن تعامل المسؤولين في حماس ليس بالجدية الكافية، فخرج بعض منهم بخطاب لم يتغير منذ بداية الحرب وربما قبلها، وكأننا فعلا ننتظر وصول جيش الاحتلال "ليعلق في رمال غزة"، ليذكرونا بمأساة "رفح" التي هدد الاحتلال باجتياحها ولم تتعامل حماس معها بجدية كافية. وقال القيادي في الحركة موسى أبو مرزوق آنذاك "هاجِم رفح وخلّصنا"، معتقدا أن العالم كله ستصدى لإسرائيل.
اجتاح الاحتلال رفح (مايو 2024)، فمُسحت المدينة وشُرد أهلها ناهيك عن آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين، ويبدو أن التجربة ستتكرر في غزة.
نأمل من قادة حماس أن لا يعيدوا الكرّة، وأن يتعاملوا مع التهديدات الإسرائيلية بمسؤولية وأكثر واقعية، وأن يضعوا في المقدمة مصلحة الشعب وليس مصلحة الحركة، ونرجّح أن الرأي الذي يجنح للمهادنة والانسحاب الذكي من معركة غير متكافئة سيكون رأيا فعلا من أجل الشعب.
من أجل وقف شلال الدم وابادة العائلات وذبح الجوعى اقتنصوا أي فرصة، فقوات الاحتلال تقتل ما معدله 100 إنسان في غزة. وكل يوم يمضي نخسر أكثر، ولو تمترستم شهر آخر سنخسر 3000 إنسان آخرين، وآلاف الجرحى، والأهم أنه بعد شهرين لو تم التوصل لتهدئة فلن يكون هناك إنجازات سياسية أو ميدانية على الأرض مقارنة بشهرين سابقين، والحرب عام 2014 خير مثال.
من أجل منع التهجير، اقتنصوا أي فرصة وإن كانت ظالمة، لتفويت الفرصة على نتنياهو بتهجير شعبنا بالزج به في الجزء الجنوبي المدمر تمهيدا للتهجير الاجباري. فوسط هذا الدمار والمقتلة أي مواطن لن فرصة الهجرة من أجل الحفاظ على أطفاله ومستقبلهم. سيما وأن التهجير خطة صهيونية قديمة من أواسط أربعينات القرن الماضي، كانت في الأدراج بانتظار الفرصة السانحة.
ومن أجل زهاء مليوني نازح مجبرون على ضنك العيش في ظروف أفضل وصف لها أنها في العصور ما قبل الوسطى، في خيام كالأفران صيفا والمجمدات شتاء وسط القمامة والأمراض والجوع والقوارض. إن النازحين في الخيام ليسوا صامدين البتة، بل مغلوب على أمرهم فانعدام الخيارات لا يسمى صمودا.
من أجل مستقبل عشرات آلاف الطلاب، الجامعيين والمراحل المدرسية المختلفة، الذين شلت حياتهم الأكاديمية وبات مستقبلهم وسط العاصفة، فوّتوا الفرصة على نتنياهو الذي دمر المدارس والجامعات، اقتنصوا أي فرصة لإعادة النظام التعليمي ولو في خيام.
من اجل النسيج الاجتماعي الذي تمزق، فالمعارك في العائلة الواحدة، أو بين عائلة وأخرى، تزداد وتيرتها وسط انفلات أمني، معارك بالأسلحة النارية والبيضاء وسطو مسلح دون رادع، ضعوا النسيج الاجتماعي نصب اعينكم للحفاظ على نسيج وطني جامع.
من أجل الحرة التي باتت تأكل بثدييها... من أجل الجوعى الذين فقدوا انسانيتهم، مئات الآلاف من الخريجين والعمال والفلاحين عزيزي النفس، جردهم الجوع من انسانيتهم ومن تحضّرهم، وباتوا أشبه بوحوش ولصوص يطعنون بعضهم خلال السطو على شاحنات المساعدات، وفي أحسن حال يتحولون إلى متسولين يزداد عددهم بالتدريج ليضم نساء وقاصرين، بعضهم يغطي وجهه تحرجا من الكاميرات وهم في طريقهم للمفرمة التي تنتظرهم عند مصائد الموت "نقاط توزيع المساعدات".
من أجل انقاذ ما تبقى من مدينة غزة ووسط القطاع، كل ما تبقى لنا، فمدينة رفح ومعظم محافظتي خانيونس وشمال غزة باتت في خبر كان دون رادع. فلنحكّم الواقعية السياسية لمنع انتقال عدوى الدمار إلى المنطقتين اللتين تأويان أكثر من مليون إنسان، أين سيذهبون في حال صدرت أوامر نزوح من الاحتلال؟ حرفيا لا متسع ولا مياه كافية.
لقد كفر المواطنون في غزة بردودكم على تهديدات نتنياهو لأنهم سمعوا مثلها كثيرا، قبل وخلال الحرب، على منابر المساجد وفي الفضائيات المضللة، وقارنوا بينها وبين ما يجري على الأرض وفهموا الفرق بين الثرى والثريا، فلم تحم أطفالهم من حمم الصواريخ ولم تطعم بطونهم الجائعة ولم تمنع تدمير منازلهم وغالبا لن تمنع تهجيرهم. ليكشفوا في أحاديث فردية عن فكرة خطرة تراودهم؛ أن يحملوا رايات بيضاء ويتوجهوا لجنود الاحتلال على حدود غزة "واللي يصير يصير"، بحثا عمن يطعم أطفالهم من جوع ويؤمنهم من خوف.
لا داعي لنذكّر بأن المسؤول الأول والأخير عن كارثة غزة هو الاحتلال، ولا داعي لاجترار أدلة ان نتنياهو هو العقبة الرئيسة ويتملص من أي تهدئة، فلماذا يهتم بتهدئة في "لعبة" له فيها الغلبة. نتنياهو يقتنص أي تحفظ من حماس، ويتربص ليسمع كلمة "بشرط" أو "ولكن" ليتمسك بها كشماعة لمزيد من الإبادة، فاعطوا الفرصة لنا نحن كي نلتقط أنفاسنا قليلا وأنقذوا ما تبقى منا.
نعلم أن قضية الرهائن هي مجرد شماعة، ومتوقع جدا لو تم تسليمهم سيستمر نتنياهو في عربدته، لكن على الأقل تكونوا قد انتزعتم الورقة الرابحة الأكبر من يده والتي يدعمه فيها العالم. وستقدموا للوسطاء والأصدقاء هدية ثمينة لتشكيل ضغط حقيقي عليه، وأيضا ستساهمون في رفع أصوات جديدة كانت متحرجة تتذرع في كل مرة ب "إطلاق سراح الرهائن".
وننصح أن لا تتفاءلوا كثيرا ب "الغضب الدولي"، تجاه خطة نتنياهو فالغضب مستمر منذ بداية الإبادة في أكتوبر 2023 ولم تغير من الواقع شيئا، أكثر من 60 ألف شهيد والمقتلة مستمرة دون أن يوقفها أي غضب. حتى مجلس الأمن لم يستطع وقف المجازر ولا ادخال قنينة ماء فلا تعولوا على "الغضب" من إسرائيل كثيرا. وأيضا لا تتواروا خلف ستارة "الفصائل" فلا ينطلي على أحد أن القرار بيدكم وحدكم.
نحن لا نتحدث عن حقوق، بل عن فن المصلحة، وهذا لا يعني موقف ضد الكلمة الساحرة "المقاومة". فلا يوجد إنسان سوي على وجه البسيطة ضد مبدأ المقاومة، فطالما تواجد الاحتلال فمن حق الشعب أن يقاوم، وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان، لكنهما لا يختلفان على أن كلمة "مقاومة" متقلبة بتقلب الظروف السياسية، والفيصل فيها هو المصلحة.
ليكن الفيصل هنا مصلحة الشعب وليس مصلحة حماس المتمثلة في الحفاظ على موطئ قدم في غزة حتى لو على حساب دمنا ومستقبل أطفالنا.