النجاح الإخباري - كتب سامي أبو سالم - غزة - ما أن عدت من وسط قطاع عزة لشماله حتى أيقنت أن كل الصور التي وصلتني عن دارنا المدمرة لم تنقل الحقيقة. فالفرق شاسع بين الصور وما تراه عيناك. فبعد سؤالي لكثير من المارة عن كيفية الوصول لحينا.
وصلت لكومة من الحجارة ليجتاحني شعور بالاهانة والضعف وكأن أحدا كشف عوراتنا، ولم أستطع أن أكبح دمعتين قاهرتين تسللتا من مقلتي… فتدمير الدار يعني تدمير كيانيتك الاجتماعية والنفسية وتشتيت لعائلتك وانتهاك لخصوصيتك وسحق لتاريخك الشخصي وتدمير لوطنك الصغير.
لم تكن دارنا مجرد جدران؛ فهي الوطن الدافئ، وهي الخصوصيات والذكريات. وهي سترنا وسباتنا وخصوصياتنا. فيها كبرت، وفيها اخشوشن صوتي، وفيها تفاصيل يومياتنا، القاسية منها والجميلة، خلال عقود خلت.
فيها بكينا وضحكنا وقهقهنا وفيها آمال وآلام، ونجاحات واخفاقات. وكانت شاهدة على خيباتي الكثيرة ونجاحاتي الصغيرة، ومعاركي البريئة وغير البريئة، الذي ضَربت وضُربت فيها.
فيها تزوجت سها، وفيها كانت تتمشى في الشهر التاسع من الحمل. وفيها كانت تحتفظ بأغلى ما تملك؛ ملاقط الحبل السري التي ترافق الجنين عند الولادة والأساور البلاستيكية الني تحمل اسم المولود على رسغه كي لا يتيه.
في دارنا نبتت أسنان أطفالنا، وسهرنا ليال طويلة نراقب درجة حرارتهم وهم نيام. نتحسس الرقبة والبطن والقدمين. فيه صراخ أطفالي وبكائهم وضحكاتهم وابتساماتهم وسعالهم وعطساتهم… في دارنا رائحة الرضيع الشهيرة، ورائحة الحليب الذي يتقيأه بعد الرضاعة، وفيه. وفيها رائحة المقلوبة والسمك والزعتر والسلطة الغزية ورائحة القهوة.
كانت دارنا مدرسة، ففيها حدثتني أمي عن تاريخ نكبة ١٩٤٨، وعن حياتها في قرية برير وكيف كانت معززة مكرمة ثم أصبحت لاجئة حتى اليوم، وحدثتنا عن الفلاحين الذين قاوموا ببارودة بطلقة واحدة مجابهين طائرات ودبابات اسرائيلية. وحدثنا أبي عن مسؤله الشهيد المصري مصطفى حافظ.
وفي دارنا تعلم أطفالي القراءة والكتابة ونظافتهم الشخصية وطبخ وجبات سريعة. وفيها كانت تصوّب إبنتي عنات تلاوة القرآن لأخويها رغم تذمرهما. وفيها نسخ أطفالي جدول الضرب كثيرا، وكنت أشرح الأزمنة في اللغة الانجليزية. وفيها تنافسوا في مَن يكتب أفضل عن لوحة "الموناليزا" أو"العشاء الأخير" باستخراج معلومات من الشبكة العنكبوتية… وفيها تنافسوا في لعبة الشطرنج، ومن يشير أولا إلى دولة كذا على خارطة العالم المعلقة على جدار بجانب خارطة لفلسطين. وفيها بدأ كريم العزف على العود الذي يرقد الآن تحت الركام.
كانت دارنا مسرحا، يقلد فيه ابني محمد معلميه وزملاء في المدرسة، وفيها نظمت احتفالات صغيرة لأطفالي بيوم ميلادهم. فيها رقصت ليلى بفستان زهري أهدته لها صديقتي سيسيليا، وفيها كنا نستمع عشية كل عيد لأغنية "يا ليلة العيد أنستينا" لأم كلثوم. وفيها رقصت الفتيات رقصا شرقيا في ليالي الحناء والتخرج، وتقافز الفتية في تعلم بدائي للدبكة على صوت اليرغول وشفيق كبها… وفيها ارتعب أطفالي كثيرا من سماع انفجارات الصواريخ الاسرائيلية في حروب سابقة على غزة… ومنه خرجت جنازة أبي.
في دارنا ملابسنا ودفاترنا وشنط أولادي المدرسية وألعايهم، وفيها شنطات السفر التي أحب النظر إليها. وفيها هدايا تذكارية من كل دولة أزورها، وفيها مكتبتي الصغيرة بما فيها من أعداد مجلات قديمة أبرزها "العربي" و "فلسطين الثورة" و"الكرمل" و"البيادر السياسي" وغيرها.
في دارنا صور لأطفالي كريم وعنات ومحمد وليلى في ميلادهم وروضاتهم ومدارسهم وشهادات تفوقهم، كنت كلما أنظر لصورة أسمع أصواتهم فيها.
في دارنا كنت أشعر بالسكينة فجرا عندما تصلي أمي الفجر وأسمع الحروف الصفيرية ترن في الصالون قبل أن نتمكن من ادخار ثمن البلاط وتركيبه بعد سنين من انشائها "حجر حجر" إلى أن أصبحت مؤخرا ٤ طوابق. وفيها بلاط زاد عمره عن ٣٥ عاما ولا يزال صلبا لامعا وبلاط حديث تشقق وكسته الندوب والحفر بعد ثلاث سنوات.
فيها تعاركت مع أخي عادل على جوارب غير مثقوبة، أو على ملابس داخلية جديدة. ونمنا على سطحها سويا وهطلت الأمطار علينا سويا. وفيها نمنا على فراش واحد وتناولنا الطعام من طبق واحد وعقدنا مؤامرات الذهاب إلى البحر سرا. وفيها كنا نستمع معا لصوت فلسطين "صوت منظمة التحرير الفلسطينية"، واذاعة "مونت كارلو" ابان انتفاضة كانون.
الدار مش بس حيطان.