وكالات - تحسين يقين - النجاح الإخباري - كل ما يحمله من ذكريات عن الحياة، وعن ما عبر عنها من كلمات وصور وألحان وملامس. وبالرغم من وجود روائع خالدة، إلا أن لكل منا تاريخا شخصيا مع قراءاته وسماعه، فلا يظل التأثر واحدا سواء أكان تأثرا جماليا أو فكريا. ودوما كنت أتأثر بالإجابات غير النمطية لجبران، في الكتاب، ردا على من سألوه...من سألوا شخصية الإنسان المروي عنه. ظل عمقه الإنساني يأسرني، بالرغم من تغير ذائقتي الأدبية من وقت إلى آخر. ويمكن أن أفرد مقالا عن ذلك، أو لعله استقصاء آراء القراء لجبران وغيره.
ما زلت أتساءل عن سبب إقبال القراء على كتبه، وفي كل فترة كان يظهر تساؤلي، كانت لي تفسيرات. في هذا الكتاب، ثمة نزعة روحية، يبدو أن جبران كان تحت تأثير الشرق عليه، وهو في بوسطن بالولايات المتحدة؛ فكأنه هو نفسه كان بحاجة لكلماته، "ليكون فجرا لذاته" كما قال هنا في الكتاب، وربما أن من عاش بينهم كانوا كذلك بحاجة لتلك الروح، من أجل التوازن الشعوري لهم، كونهم يحيون حياة مادية أكثر منها روحية، ربما. وربما للأسلوب، المتأثر بالعهد الجديد.
عاش الكتاب أكثر من عمره، وما زال، كذلك كتبه الـ 16 كتابا، التي ألفها بالعربية، والتي تمت ترجمتها عن الإنجليزية. إضافة إلى مجموعة كتب رسائل جبران. أما لوحاته، فعرفناها من كتبه، ومن سيرته، ورسائله. وكم نود لو ضمّ لوحاته كتاب، كون جبران حتى مراحل متقدمة عرف كرسام أكثر منه كاتبا.
من بضعة عقود، كان كتاب "النبي" من أهم الكتب التي يعاد طبعها على مستوى العالم، وقد ظهر بالعربية في فترة متقاربة مع النص المنشور باللغة الإنجليزية prophet، والذي أصبح في المجموعة المترجمة لكتب جبران الثمانية.
ولعلني قرأته مرات متعددة بين العمر حتى آخر الثلاثينيات، بعد ذلك صارت عودتي له إما من باب الحنين، أو من باب الاهتمام الأدبي؛ بمعنى أنه مع تقدم الإنسان بالعمر، وتطوره الفكري، فإنه يطور نظرته، ولربما يخف السحر تجاه الأشياء بشكل عام، كونه يقترب من النظرة الموضوعية، وكتاب "جبران" لميخائيل نعيمة، وهو سيرة غيرية عن حياة جبران بقلم أحد أهم رفاق دربه أدبيا وإنسانيا. لقد كتب نعيمة الكتاب بعد عشرين عاما على رحيل جبران، ما منحه الفرصة للكتابة الهادئة بعيدا عن الانفعال.
وخلال ذلك وحتى الآن، لم ننقطع عن سماع أغنية "المحبة" المقتبسة من الكتاب، بصوت فيروز، حيث يمنح صوت فيروز معنى إضافيا يسكن في النفس طويلا، حيث يلتقي جبران وفيروز والمعاني الإنسانية.
وجدت كتابات جبران في نفسي والملايين ربما صدى ما، يجمع ما بين الجانب السيكولوجي والإنساني، ولربما نفرد لذلك مرة مقالا خاصا. والمهم هنا أن كتاب النبي كان له بصمة خاصة، حتى لكأنني رحت أحاكيه بضع سنوات، من خلال كتابات قصيرة لم أنشرها وبقيت مخطوطة بين ما كتبته، حتى تخلصت من ذلك التأثير أدبيا.
كتاب النبي الذي ظهر العام 1923 يتحدث عن شخصية الإنسان الحكيم الذي عاش فترة في مدينة أورفليس، وحين قرر المغادرة، قدم إليه الكثيرون يرجونه البقاء، خلال ذلك سألوه، كل سائل يسأل من منظور مشاعره وأفكاره واهتمامه وعلمه ومهنته.
وهكذا "ظلَّ المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرا لذاته، يترقَّب عودة سفينته في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة؛ ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي وُلد فيها.. وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قمة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تَمْخر عباب البحر مغمورة بالضَّباب.. فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحًا، فأغمض عينيه، ثمَّ صلَّى في سكون نفسه".
ليتساءل هذا الراحل والباقي: "أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع؟"، بمبرر أن فكرة الرحيل تجعل للرسائل والوصايا معنى إضافيا.
وهنا انتقيت 8 مواضيع تحدث عنها هذا الإنسان، الموصوف بالمصطفى مختار الحبيب"، من ضمن عدد أكثر من المواضيع، والتي يصعب الإحاطة بها هنا، ولربما يغلب عليها الشاعرية، من خلال تطور وعينا تجاه النص.
المحبة: "ولكن إذا أحببت، وكان لا بدَّ من أن تكون لك رغبات خاصة بك، فلتكن هذه رغباتك: أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق، فتؤدي واجب الشكر ملتمسًا يوم محبة آخر..أن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبة..أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكرًا.."، وهي وباقي النص، تتمحور حول فكرة تقدير ما بين يدينا، لأنه عظيم.
أما في موضوع الزواج، فنقتبس: ثمَّ قالت له المِطْرة ثانية: وما رأيك في الزواج أيها المعلم؟ فأجاب قائلًا: قد وُلدتم معًا، وستظلون معًا إلى الأبد..وستكونون معًا عندما تبدد أيامَكم أجنحةُ الموت البيضاء..أجل، وستكونون معًا حتى في سكون تذكارات الله..ولكن، فليكن بين وجودكم معًا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم..أحبُّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموِّجًا بين شواطئ نفوسكم..ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لا تشربوا من كأس واحدة..أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه، ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد..غنوا وارقصوا معًا، وكونوا فرحين أبدًا، ولكن فليكن كلٌّ منكم وحده.. كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده، ولكنها جميعًا تخرج نغمًا واحدًا..قفوا معًا ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا؛ لأن عمودَي الهيكل يقفان منفصلَيْن..والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها".
لعل أهم تعليق هنا، من وجهة نظر الكاتب هو ترك المسافات بما يكفي لحياة مستقرة، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
ويمضي جبران بفلسفته العميقة، والتي تعتمد على فهمه لسيكولوجية الإنسان، وصولا لموضوع الأبناء:
"ثمَّ دنت منه امرأة تحمل طفلها على ذراعيها، وقالت له: هات حدِّثنا عن الأولاد. فقال: إنَّ أولادكم ليسوا أولادًا لكم. إنَّهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.. ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم.. أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكن لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم؛ لأن لهم أفكارًا خاصة بهم..وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم..". وأظن أنه هنا منسجم مع ما ذكره آخرون، منهم علي بن أبي طالب وسقراط وأفلاطون: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.." والظن أن كل مفكّر يمكن أن يصل إلى هذه القناعة فيما يخص الأجيال.
في العطاء كتب: "جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه". وهنا تذكرت بيت شعر لزهير بن أبي سلمىٰ عن كرم هَرِم بن سِنان حين قال: قيل إنه من أجمل ما قيل في المدح: تراه إذا ما جئته متهللا كأنه تعطيه الذي أنت سائل. والمعنى واضح هنا، وأظنه لدى جبران وزهير ينطلق من مراعاة المتعففين.
أما نظرته العميقة لموضوع البيوت، فجاء على شكل أسئلة: "بربكم أخبروني، يا أبناء أورفليس، ماذا تملكون في هذه البيوت؟ وأي شيء تحتفظون به في داخل هذه الأبواب الموصدة؟ هل عندكم السلام، وهو القوة الصامتة التي تظهر ذاتكم الشديدة العزم المستترة في أعماقكم؟ هل عندكم التذكارات، وهي القناطر اللامعة التي تصل قنن الفكر الإنساني بعضها ببعض؟ هل عندكم الجمال، الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات الخشب والحجارة إلى الجبل المقدس؟"
ونظرة جبران حول التعليم، تتفق والمدارس الحديثة والعميقة: "ما من رجل يستطيع أن يعلن لكم شيئًا غير ما هو مستقر في فجر معرفتكم وأنتم غافلون عنه. أمَّا المعلم الذي يسير في ظل الهيكل مُحاطًا بأتباعه ومريديه، فهو لا يعطي شيئًا من حكمته، بل إنَّما يعطي من إيمانه وعطفه ومحبته..لأنَّه إذا كان بالحقيقة حكيمًا فإنه لا يأمركم أن تدخلوا بيت حكمته، بل يقودكم بالأحرى إلى عتبة فكركم وحكمتكم.". إنه هنا يتحدث عن تذويت المعرفة وأنسنتها، وكيف ينجح المعلم في التعامل مع المتعلم بدون سلطة.