وكالات - النجاح الإخباري - هنالك متلازمة تاريخية: عندما تصعد إمبراطورية جديدة تنتهي إمبراطورية قديمة في العالم. التاريخ القديم والحديث شاهدان على ذلك.
الإمبراطورية العربية الإسلامية جاءت على حساب الامبراطوريتين الفارسية والرومانية. الإمبراطورية المغولية تأسست على أنقاض الإمبراطوريات الصينية والعربية الإسلامية والروسية، والإمبراطورية العثمانية قامت على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية.
في العصر الحديث، الإمبراطوريتان السوفييتية والأميركية ورثتا نفوذ الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد أميركا بقيادة العالم.
صعود إمبراطورية جديدة في العالم كان دائماً مصاحباً لحالتين: قيادة تمتلك أيديولوجيا ولها طموح بالتوسع، ولحظة ضعف أو بدايات انهيار لدى خصومها.
لم يكن بإمكان القادة العرب المسلمين الخروج من الجزيرة العربية وتأسيس إمبراطوريتهم دون الإسلام، لكن نجاحهم لم يكن محققاً لولا أن الدولتين الرومانية والفارسية كانتا تعانيان من لحظة انهيار. ولم يكن بإمكان المغول سحق الإمبراطورية العربية الإسلامية والاستيلاء على عاصمتها في بغداد لو لم تكن الأخيرة قد وصلت لمرحلة البؤس. وهكذا كان الحال في كل مراحل التاريخ.
بريطانيا وفرنسا ورثتا الإمبراطورية العثمانية بعد أن أصابها المرض ولم تعد قادرة حتى على الصرف المالي على مؤسساتها، أما أميركا والاتحاد السوفييتي فقد ورثاهما بعد خروجهما من الحرب العالمية الثانية في حالة ضعف.
اليوم تصارع أميركا من أجل بقائها دولة مهيمنة على العالم، لكنّ هنالك ما يكفي من الشواهد للقول إنها، وعلى الرغم من تفوقها التقني والعسكري، قد دخلت مرحلة الأفول مثل جميع الامبراطوريات التي سبقتها.
هنالك مثلاُ انقسام إثني حاد داخل المجتمع الأميركي يتم التعبير عنه في تحالفات الحزبين الديمقراطي والجمهوري. الأول لا يستطيع المنافسة على الحكم دون ائتلاف عريض مع الأقليات العرقية التي أصبحت تشكل ما نسبته ٤٠٪ من مجموع سكان الولايات المتحدة. والثاني لا يستطيع المنافسة دون انحياز أعمى للغالبية البيضاء التي تشكل قاعدته الانتخابية.
هذا الانقسام الحاد شاهدنا تجلياته ليس فقط في التظاهرات الشعبية العديدة للأميركيين الأفارقة المطالبة بالمساواة في تعامل أجهزة الشرطة معهم، ولكن في اقتحام الكونغرس من قبل المتطرفين البيض من أنصار الرئيس ترامب بعد خسارته في انتخابات العام ٢٠٢٠.
بقاء الرئيس السابق ترامب كأفضل مرشح جمهوري له حظوظ بالفوز في انتخابات ٢٠٢٤ هو دليل آخر على ديمومة الانقسام الإثني وتعمقه وعلى فشل سياسات الرئيس بايدن في توحيد الشعب الأميركي.
قيام بايدن بترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة وعدم معارضة حزبه الديمقراطي لذلك حتى الآن هو دليل آخر على حالة الضعف التي تعيشها أميركا.
الرئيس بايدن وفق تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، لا يستطيع القيام بمهامه بعد الساعة الرابعة عصراً، وهو يقوم بتركيز جميع اجتماعاته بين منتصف النهار والرابعة عصراً لأنه بحاجة للراحة مساء بسبب شيخوخته.
وفق تقرير صادر عن أطبائه، الرجل يمشي بصلابة بسبب تآكل في عموده الفقري وتضيق في أوتار الركبة وهو يتناول أدوية للرجفان الأذيني والكوليسترول وحموضة المعدة والربو والحساسية، وهو يعاني من اضطراب وتلعثم في الكلام ويفقد أحياناً الذاكرة بشكل لحظي لدرجة أنه نسي كم لديه من الأحفاد أثناء حديثة مع أطفال كانوا في ضيافته.
إمبراطورية لا يتنافس على قيادتها سوى العجائز (عُمر بايدن ٨٠ عاماً أما ترامب فهو ٧٦) بلا شك قد دخلت مرحلة الأفول.
أميركا اليوم دولة ترهقها الديون. وفق تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي العام ٢٠٢١، الولايات المتحدة من بين الدول الأكثر مديونية في العالم حيث وصل دينها إلى ١١٥٪ من ناتجها المحلي الإجمالي وهي تحتل المرتبة ١٦ من بين ١٦٤ دولة شملها التقرير. الدول الـ ١٦ من بينها فقط اليابان واليونان والبرتغال وإيطاليا من الدول المتقدمة نسبياً.
عندما استلم الرئيس بوش الابن الرئاسة العام ٢٠٠٠، كانت ديون الولايات المتحدة لا تتجاوز ٤٢٪ من إجمالي ناتجها المحلي، لكن الحروب التي خاضها في العراق وأفغانستان تسببت في ارتفاع مديونية الدولة منذ ذلك الوقت واستمر تصاعد الدين مع استمرار الاحتلال. دعونا نتذكر هنا أن أحد أسباب انهيار الإمبراطورية العثمانية كان الإفلاس المالي الذي عانت منه.
اليوم يستمر الإنفاق الجنوني في الولايات المتحدة على التسلح وعلى دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا وعلى دعم حلفائها حول العالم لمواجهة الصين، وكل ذلك يزيد من مديونيتها ومن لحظة إفلاسها.
هنالك مؤشر آخر على لحظة أفول العصر الأميركي وهو خروج عدد كبير من الدول من نطاق هيمنتها واتباعهم لنهج سياسي مستقل بعيداً عنها ورغم إرادتها.
اليوم هناك دول وازنة في العالم ترفض سياسات أميركا وتتحداها. تركيا وهي عضو في الناتو ترفض العقوبات الاقتصادية على روسيا وسياستها تلتقي أكثر معها.
العربية السعودية خرجت بشكل واضح عن العباءة الأميركية وهي تنتهج سياسة نفطية مستقلة وترفض العقوبات على روسيا وتطور علاقاتها بشكل كبير مع الصين.
دول عديدة في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا ترفض أيضاً الخضوع للإملاءات الأميركية وتقترب أكثر من الصين وروسيا.
الحقيقة أن الدول التي ما زالت تدور في الفلك الأميركي بشكل كبير هي الدول الأوروبية بسبب خوفها من روسيا بعد اجتياح الأخيرة لأوكرانيا، لكن هذا الخضوع للولايات المتحدة في الملف الأوكراني لا يعني خضوعاً مطلقاً إذ إن هنالك تبايناً واضحاً بينهم فيما يتعلق بالصين، حيث ترغب أوروبا بالحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة مع الصين في حين تريد أميركا منها تبني موقف حازم يتعارض مع مصالحها.
هذه المؤشرات على بداية الأفول للعصر الأميركي لا تعني بالطبع نهاية الهيمنة الأميركية على العالم، فالولايات المتحدة لا تزال الدولة الأكثر تقدماً في التكنولوجيا، واقتصادها هو الأكبر عالمياً، وأسلحتها هي الأحدث في العالم، لكنّ هناك مؤشرات على طريق الانحدار المؤدي إلى الأفول في حالة استمرار صعود دول أخرى مثل الصين.