جنين - رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - لم تبتعد إدارة جو بايدن كثيراً عن سابقتها إدارة دونالد ترامب، رغم محاولة الأولى خاصة في بداية عهدها، تقديم نفسها بشكل مغاير، وتحديداً في ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وحيث إن ترامب وخلافاً لكل الرؤساء الذين سبقوه أقدم على الخطوة الاحتلالية المتمثلة بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، فإن إدارة بايدن حاولت الرد بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، لكن الرفض الإسرائيلي منعها من تنفيذ تلك الخطوة، وحيث إن ترامب فشل في تمرير صفقة العصر، إلا أنه نجح في إبرام اتفاقيات أبراهام التطبيعية بين إسرائيل وأربع دول عربية، وحيث إن إدارة بايدن لم تتجاوز الحد الذي وقفت عنده إدارة ترامب في الملف الفلسطيني - الإسرائيلي، فإن جل ما تسعى إليه حالياً هو أن «تحاكي» إدارة ترامب، بإكمال مسار التطبيع، وذلك باصطياد السمكة الكبيرة، أي السعودية، حيث لو نجحت في ذلك فإن عقد اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية ستقدمه إدارة بايدن على أنه أهم بكثير من ذاك الذي جرى العام 2020.
ذلك الاتفاق الذي رعاه ترامب شخصياً في البيت الأبيض، وقع بعد نحو شهرين فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية، وكان ترامب يظن أن ذلك قد يبقي على حظوظه في البقاء في البيت الأبيض، حيث بدا ذلك أمراً غير مؤكد، رغم أن الغالب في التقليد الأميركي أن ينجح الرئيس المرشح في الفوز بالولاية الثانية، لكن ترامب لم ينجح فذهب هو وبقيت اتفاقيات الشؤم، كعامل آخر يشد على يد الاحتلال الإسرائيلي، ويبقي بذلك على حالة التوتر في الشرق الأوسط، بل ويعزز من سطوة اليمين الإسرائيلي ويزيد من مستوى تطرفه، بما يؤدي عكس الغرض الذي يقال فيه، وهو إبقاء إسرائيل خارج إطار حالة التعايش مع المحيط العربي - الإسلامي.
وبالطبع فإن ما يهم الرئيس الأميركي المرشح الرئاسي للولاية الثانية يهم كل أركان إدارته وأولهم وزير الخارجية، الذي قد يعني بقاء رئيسه في البيت الأبيض، بقاءه هو أيضاً في مبنى هاري ترومان على بعد عدة بنايات فقط من البيت الأبيض، وحتى اللحظة يبدو أنتوني بلينكن على وفاق مع جو بايدن، بل ربما كانت حظوظ بلينكن في البقاء بالمنصب أكثر من فرص بايدن نفسه، فاستطلاعات الرأي التي ترغب في منح الرئيس تمثيل الحزب الديمقراطي في معركته الانتخابية القادمة مع الحزب الجمهوري منخفضة جداً، حتى في أوساط ناخبي الحزب الديمقراطي، ولذلك أسبابه السياسية حيث فشل بايدن في تحقيق أي هدف، لا في الملف الإيراني، ولا في الملف الفلسطيني، وقد ورط أوروبا واقتصاد بلاده في الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، كل هذا إضافة إلى تقدمه كثيراً في السن، حيث كان يسود الاعتقاد حين ترشح في العام 2018، بأنه قد لا يكمل تلك الولاية، وأن هناك احتمالاً أن تتولى المنصب عنه في لحظة ما نائبته كمالا هاريس.
يمكن القول إن بايدن وكذلك أركان إدارته وفي مقدمتهم بلينكن، قد دخل البيت الأبيض بزي نائب الرئيس باراك أوباما الذي ارتداه ما بين عامي 2008 - 2016، لذا سارع على الفور بالتركيز على العودة للعمل بالاتفاق الدولي الخاص ببرنامجها النووي مع إيران، الذي كان سلفه بايدن قد أوقف العمل به العام 2018، أي بعد ثلاث سنوات من توصل أميركا والدول العظمي (5+1) أي الدول الأعضاء في مجلس الأمن مع ألمانيا، لذلك الاتفاق العام 2015، أي في آخر عهد الرئيس أوباما حيث كان بايدن نائباً له، ومشاركاً في صنع سياسته، ثم أعلنت أركان إدارته عن فتح الأفق السياسي لحل الدولتين، وأن إدارة بايدن، التي ما كان بإمكانها التراجع عن قرار ترامب الخاص بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، ردت بالإعلان عن افتتاح قنصليتها في القدس الشرقية، والتي يمكن النظر لها على أنها سفارة الولايات المتحدة لدى دولة فلسطين.
وقد كان واضحاً جداً، أن بايدن خصم ترامب، يذهب معاكساً له في كل المحطات الأساسية التي أقدم عليها بما في ذلك علاقته باليمين الإسرائيلي وزعيمه القوي بنيامين نتنياهو، لذا ما كان يخفي بايدن سروره بنجاح المعارضة بتشكيل الحكومة البديلة في العام 2022، خاصة بعد قرار حل الكنيست وتولي يائير لابيد مقاليد حكومة تسيير الأعمال بديلاً عن رئيس الحكومة البديلة نفتالي بينيت، وحتى اللحظة لا تزال العلاقة القوية التي جمعت نتنياهو بترامب، تلقي بظلالها على علاقة بايدن بنتنياهو بعد عودة الزعيم اليميني الإسرائيلي للحكم مع طاقم هو الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
وحتى داخل أميركا نفسها، سار بايدن على طريق معاكس لطريق ترامب، حيث كان تعامل ترامب مع جائحة كورونا، أحد الأسباب التي أدت إلى سقوطه، لكن بايدن بعد أقل من عامين في البيت الأبيض، سرعان ما اكتشف أنه وهو المحافظ من بين الديمقراطيين، والذي كان ذلك سبباً في تصدره أولاً مرشحي الحزب الديمقراطي، ثم في فوزه على الرئيس الجمهوري المرشح، سرعان ما خلع ثوب أوباما، الرئيس الديمقراطي القوي، وليس ثوب ترامب، وذلك في سياق سعيه للفوز بالولاية الثانية.
أما انتقال بايدن من عالم أوباما إلى أجواء ترامب فقد بدأ جلياً قبل عدة أشهر، وفي أول زيارة له كرئيس للولايات المتحدة، للشرق الأوسط، «انفطر» قلب الرجل ألماً على فلسطين، وإزاء مطالبات الرئيس محمود عباس له بالقيام بالضغط على الاحتلال، من أجل الدفع بحل الدولتين، قال إن ذلك يحتاج للسيد المسيح، أي لمعجزة، ومن الأرض المقدسة طار إلى جدة، بحثاً عن التطبيع بين السعودية وإسرائيل، أما وزير خارجيته، فإنه عبر تماماً عن كون الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالملف الفلسطيني - الإسرائيلي، ليست طرفاً محايداً، ولا حتى راعياً للتفاوض، ولا حتى تتخذ موقفاً استراتيجياً لصالح إسرائيل نفسها كدولة، بل هي تتبنى موقف الحكومة الإسرائيلية وتدافع عنه، وتسهل له الطريق ليمر بيسر وسهولة، ورغم أن الولايات المتحدة مكلفة دولياً، وأخلاقياً منذ ثلاثة عقود برعاية التفاوض بما يؤدي إلى حل الدولتين وانسحاب إسرائيل من الأرض الفلسطينية المحتلة تطبيقاً للعدالة وللقرارات الدولية، إلا أن بلينكن «لا فض فوه» أتحفنا بالقول إن حل الدولتين وهو الشعار الذي رفعته أميركا بالذات، يمكن التوصل إليه فقط عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين!
كيف يكون ذلك وكل الدنيا تعرف أن إسرائيل لا تريد التفاوض على الحل الذي يتضمن أو يؤدي إلى انسحابها، وأنها دون ضغط دولي لن تفعل ذلك، وقد قال هذا قبل يوم واحد فقط من توجهه إلى السعودية، حيث يسعى إلى ما سعى إليه رئيسه من قبل.
التطبيع بين السعودية وإسرائيل يمكن التوصل إليه عبر الوسيط الأميركي، لأن لإسرائيل مصلحة فيه، ولا مصلحة لإسرائيل في حل الدولتين، وهكذا هي واشنطن بكل إداراتها، لا تتحرك إلا لتحقيق المصلحة الإسرائيلية، وكما دفعت إدارة ترامب ثمن التطبيع الإبراهيمي من جيبها وليس من الجيب الإسرائيلي، فهي قدمت اعترافاً للمغرب بتبعية الصحراء لها، وهي أخرجت السودان من قائمة الإرهاب، وشطبت عنه تداعيات القضاء الناجمة عن سقوط طائرة مدينة أميركية قبل عقود، واتهمت السودان بالتورط فيها، وواشنطن قدمت صفقة أسلحة للإمارات لتنخرط في اتفاقيات أبراهام، ولأن السعودية تشترط أن تزودها واشنطن بأسلحة متقدمة، وكذلك بالتكنولوجيا اللازمة للاستخدام السلمي الطاقة النووية، حيث إسرائيل ترفض ذلك علناً، لذا يطير بلينكن إلى الرياض من أجل تحقيق المصلحة الإسرائيلية، ولعل وعسى يزيد إعلان التطبيع بين الرياض وتل أبيب قبل انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة التي ستُجرى بعد نحو عام ونصف العام، من فرصة إدارته في البقاء في البيت الأبيض.