وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - قبّة الصخرة المشرّفة وشجرة الزيتون المباركة تختزلان فلسطين، أو ترمزان إليها، بل وترمّزانها.. كما النيل والأهرامات مثلاً.
ليست الزيتونة، وهي ملكة أشجار فلسطين، حكراً عليها.. لكن النطاق المتوسّطي يكاد يكون هو نطاق الزيتون العالمي، مع إضافة أو إضافتين هامشيّتين، إحداهما غرب الولايات المتحدة، قرب سان فرانسيسكو.
الزيتونة هي شجرة الشتاء الماطر والصيف الجاف. الرياح الموسمية من جهة، والنهايات المستدقّة للبرّ القارّي في الكرة الأرضية، تعطّلان سيادة الزيتونة، حيث يتوفّر - نظريّاً - شتاء ماطر وصيف جاف.
ثمة عنصر ثالث يميّز المشهد الفلسطيني، ويدلّ عليه دلالة أقوى.. حتى من قبّة الصخرة وشجرة الزيتون. إنها السلسلة الحجرية، أو السنسلة إذا بنتها يد الإنسان على السفوح الجبلية الفلسطينية الليّنة على وجه العُموم، فإذا بنتها في مناطق العمران تسمّى سوراً أو «صوراً».
«القبّة عمل هندسي مميّز، أو هي عنصر مميّز من عناصر العمارة المشرقية - الإسلامية، شأنها شأن الأعمدة في العمارة الرومانية - اليونانية.
قبّة ذهبية وسماء زرقاء.. وسور.. هذا هو المشهد المقدسي بعناصره الثلاثة المترابطة.
الزيتونة عمل طبيعي.. فالشجرة تتسيّد مملكة النبات من غابات سيبيريا وكندا إلى غابات الأمازون.. وإفريقيا الاستوائية.
غير أنّ «السنسلة « و»الصور» هما عمل الإنسان وتوازن عمله مع بيئته.. وهما، أوّلاً، من عمل الإنسان المتوسّطي، ومن مُوجِبات مُناخه المتّصف بأمطار عاصفية تهطل على أرض جافّة، عطشى.. فتغسل الأمطار المنحدرات الجبلية، وتجرّدها من ثوبها الترابي.
الجبال المتوسّطية والعربية منها، خصوصاً هي، غالبا، جبال ذات صخور كلسية، من خصائصها الفيزيائية أن تفكّكها أو تحلّلها بفعل الأمطار، كما بسبب تعاقب الحرّ والقرّ، لا يؤدي إلى تكوين قشرة ترابية.. إلّا ببطءٍ شديد.
لهذا السبب، فإن جبال المتوسّط البعيدة عشرات الكيلومترات عن البحر، وخصوصاً شطره الجنوبي والشرقي، هي جبال معرّاة من التربة.. وبالتالي: تكاد تكون عارية من الغطاء النباتي. أو أن الحضارة الرعوية التي طالت على مدى آلاف السنوات ساهمت في تجريد الجبال من غطائها النباتي والشجري، ومكّنت أمطار السيول من جرف الغطاء الترابي.
«السنسلة» عمل إيجابي ومُبدع من أعمال الإنسان لصيانة التربة على المنحدرات الجبلية، ولمنعها من الانجراف، أو لإيجاد توازن بين نسبة انجرافها وبين زمن تكوين تربة جديدة بفعل قيام جذور النباتات والأعشاب بتفكيك الصخر ومسك التربة.
هذه السنسلة نجدها في المشهد الطبوغرافي الفلسطيني بالضفة بأكثر مما نجدها في باقي المشاهد الطبوغرافية المتوسطية، لأن لبنان وسورية - على سبيل المثال - تملكان سهولاً مترامية الأطراف (كما في سورية) أو ذات مساحة معقولة (كما في بقاع لبنان).
وتستحقّ السنسلة حملةً وطنيةً شاملةً وحثيثة لترميمها والحفاظ عليها والاستزادة منها. كما تستحقّ أن تقوم جمعيات أهلية بتكريس جهدها للدفاع عنها، فيوجد لدينا جمعيات لحقوق الإنسان، وقرأنا عن جمعيات للحفاظ على الطبيعة، أو للحفاظ على طيور فلسطين وحياتها البرّية.
ما يُؤلم الفلسطيني المتجوّل في قرى الضفة الغربية أنّ السنسلة تتهدّم شيئاً فشيئاً، أو تتفكّك السناسل القديمة بفعل الإهمال وعاديات الزمن بأكثر ممّا نرى بناء سناسل جديدة.
إذا استمر مثل هذا الإهمال عقوداً وقروناً، فإنّ التربة الجبلية في الضفة الغربية مُعرّضة للانجراف، وخصوصاً مع الرعي الحثيث والمفرط، حيث تتولّى أسنان الماعز القويّة إلحاق الأذى بالغشاء النباتي وجذوره، الأمر الذي يُسهّل على الأمطار والسيول جرف التربة، وتعرية الجبال من غطائها النباتي الطبيعي.
وهذه «السنسلة»، أيضاً، عمل من أعمال الإنسان البنائية الإبداعية، وخصوصاً منها «الصور» المتين، حيث يحمل كل حجر بصمة الإنسان الذي وضعه في مكانه.. كما لكلّ إنسان بصمته.
ويبدو «الصور» كعمل جمالي فنّي، حيث تشكّل حجارته «لوحة» قلّما تتشابه مع لوحات أخرى.
وكم ستبدو القرى الفلسطينية جميلة لو رصفت أسوار بيوتها الخارجية على منوال «الصور» بدلاً من هذه الصبّة الخرسانية البلهاء والبشعة، بدلاً من سُورٍ حجريّ مبني بطريقة مُمِلّة.
.. وأخيراً، كيف نأمل بإعادة تشجير معظم جبالنا، إذا أهملنا صيانة السنسلة؟ وكيف نطمح إلى تجميل قرانا ومدننا.. ونحن نُهمِل جمالات «الصور»؟!
«السنسلة و»الصور» مشهد فلسطيني مميّز، وعمل فلسطيني مميّز، شأنه في ذلك شأن الثوب الفلسطيني وتطريزاته. وهو لا يقلّ جمالاً ومنفعة عن القبّة والزيتونة.