وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - 1 - أُمّ العلالي
«وليفة» أحسن الأسماء الحُسنى للزوجة المَصُون. أُمّ العلالي وليفة أبو العلالي. زوجان ذاقا مُرّ النكبة على كِبَر، وتذوّقاها بلا حَرثٍ ولا نَسل.
لا ولد اسمه عليّ ولا بنت اسمها علويّة يزيدان صحن الدّار غَلياناً، حتى يستشيط الشيخ أخُو الشيخ غَضباً: «يا فلسطينيّة، اللّه يغضب عليكم. اللّه لا يردّكم إلى بلادكم».. فيأتي الدّرك، من المخفر القريب، لإسكاته بالحُسنى. يفشلون، فيتولّى الشيخ، الشقيق الثاني، الطيّب، إسكاته زَجْراً.
شَيخان ذَكران، طيّب وسيّئ، وزَوجان شائِخان: أُمّ العلالي وأبو العلالي. لا يشكواننا، قطّ، لا إلى ربّ العالمين ولا الوالدين.. والأخ الأكبر.
كان البيت من طوب اللِّبن، كما في غوطة دمشق، لكنّه كان «بيت عزّ»، غرفة أشبه بـ «اللِّيوان»، ونوافذه الخشبية مُزخرفة، وزُجاجها مُعشّق بالألوان الزّاهية.
غُرفة للشّيخَين العَازِبَين. غُرفة للعَمّة مَريم (وابنها وابنتها، لأنّ زوجها سقطَ أسيراً مجهول المصير، في معركة انسحاب المُقاتلين الطيراوية من طيرة حيفا).
غُرفة للعمّ والعمّة (أمّ خالد وأبي خالد وأولادهما) غُرفة للخالة بدرية (ستمُوت بِكراً عجوزاً لاحقاً). وبالطبع غُرفة لنا (أُمّ مصباح، وأبي مصباح.. الذي سيتسلّل ابنهما المُقاتل الجريح - الأسير من «إسرائيل» إلى المنفى بعد النكبة بعشر سنوات).
.. وغُرفة («الخُشّة» في الواقع)، لأُمّ العلالي وأبي العلالي. في هذا «المُخيّم الصغير» الفاخر بقرية دُوما، لم ندخل، قَطّ، غُرفة الشيخين الشقيقين العازبين (شقيقتهما المُتزوّجة تزورهما حاملةً طبيخاً، أو غسيلاً نظيفاً).
.. ولكننا كنّا نختبئ، في «لُعبة الغُمِّيضة» بـ»خُشّة» أُمّ العلالي المليئة بالفئران (صرخت أُمّ العلالي، ببصرها الحَسِير، عندما أكَلَت فأراً صغيراً سقط في طُنجرة الفاصولياء الجافّة).. وبالطبع، نحمل لهما حُصّة الشهر من «الأونروا».. دون أن نتذمّر أبداً.
باكُورة سيّدي أبو العلالي مالِسة جدّاً. توكّأ عليها في سِفْرِ الخُروج، وعاشت بعده. غمامة بيضاء تكاد تسرق زُرقة السّماء من عيني أُمّ العلالي الغاربتين. هذا ما أتذكّره. الآن، أتذكّر كيف قرف أولاد العمّة والعمّ والخالة من تناول الفاصولياء باللّحمة.. رَدحاً غير يسير.
لم يكونا من الأقرباء. لم يكونا من البلدة.. ربّما التقطهما المُهاجِرون الطيراوية على درب المنفى. الأكيد أنّ العِشرَة الطّويلة بلا أولاد جعلت وجهي «الوليفين» مُتشابهين جدّاً.
الأكيد: انقطع حَرثَهما ونَسلَهما بموتِهما. الأكيد: عندما أمُوت سينقطع ذكرهما، أيضاً.

2- أُمّ وليد اللَّبنة
يذهب كالسيوم حليب الوكالة إلى عظام أولاد اللّاجئين. احذروا الكُساح. احذروا «البلاغرا»، «الدفتريا». كل جدران طبابات «الأونروا» مليئة بالتحذير من الموت.. نقطة، نقطة كانت «أُمّ وليد» تجمع ما يتساقط من حنفية الحليب (حنفيّتان في الواقع: «حليب الكبار» و»حليب الأطفال»).
من هذه النقاط المَهدُورة، كانت تتخثّر لبنة يُحبّها الفلّاحون السوريون لا أدري لماذا؟ دسم زائد في «حليب الأطفال» أو نظافة «لبن اللّاجئين» كما يقولون، أو شطارة أُمّ وليد.
تتخثّر نقاط الحليب لبنة. تتخثّر اللبنة.. إلى «حجارة بيضاء» (في قسم الجيولوجيا ستُميّز أحقاب العصر الطباشيري: (C1., C2., C3., C4).
الذين سَخِرُوا من أُمّ وليد اللَّبنة، لم يَجِدُوا مكاناً للنميمة في سخطهم اللّاحق: لقد بنت اللّاجئة بيتاً حجرياً لأولادها.. ولأولاد أولادها.
أُمّ وليد، الرَّاعية في الجليل، تضع سَطلها تحت حنفيّة الحليب. بين حصّة وحصّة.. كانت القطرات تتجمّع سطلاً. في الحقيقة كان اسمها «أُمّ وليد».. وأَمّا «أُمّ وليد اللَّبنة» فهو لقبها من زبائنها الفلّاحين السوريّين.
لسببٍ ما، نكره حليب الوكالة. ولسببٍ ما كانوا يُحبّون «لبنة حليب اللّاجئين». نظيف، عالي الدسم، شهيّ المذاق.
يا أُمّ وليد اللَّبنة جازاك اللّه خيراً. حجارة البيت باقية. وعظام «أولاد حليب الوكالة» في قُبور مُبعثرة هنا وهناك.

3- أُمّ عَمرِين
إنّها لا تمشِي ولا تخطُو. إنّها «تفشخ» خطوات واسعة وسريعة. طويلة القامة. هيفاء القدّ. ابنها الكبير عَمرِين أحمر الأنف، أزرق العينين، أشقر الشعر.
«هاي مُوسكوبية» جاء بها «أبو عَمرِين» من ما وراء بلاد الأناضُول، في حرب كمال أتاتُورك.
سنعرف أنّ «بلادنا» هي فلسطين، وثمّة بلاد أُخرى «بلاد المُوسكوب» أكبر من الاتحاد السوفياتي. كلّ السلاف هم «مُوسكوب». سيكبر أولاد اللّاجئين، يتعلّمون في رُوسيا، جمهوريات الاتحاد السوفياتي.. وسيعُودون مع زوجة من بلاد المُوسكوب.
«قطعنَ النصراويّات مَرج ابن عَامِر/ ولمّا قطعنَ المَرج فُضن بالبكاء» لكنّ المُوسكوبيّات قطعنَ الأناضول، البحار، البلاد.. وفي أوّل المنفى مات «أبو عَمرِين».
«المُوسكوبيّة» التي تسير كأنها «تفشخ» خلفّت ولداً ليس له مثيل في الوثب العالي.
يا للأمّهات في أوّل المنفى.
يا لأولاد اللّاجئين في أوّل البلاد.. من جديد.