وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - مع الوقت يتلاشى الأنين الخافت المنبعث من بين الأنقاض التي أطبقت على أرواح البشر وهي تسجل كارثة إنسانية، ويموت النواح الشاحب لأرواح قضت ساعاتها الأخيرة وهي تموت ببطء وعذاب لا يمكن أن يتصوره العقل البشري الذي سيظل يبكي واحدة من المآسي الكبرى، هذه المرة ليس من صنع البشر الذين لم يتوقفوا عن صناعتها بل من صنع الطبيعة التي اهتزت غاضبة عليهم.
كيف تحولت البيوت إلى مقابر ؟ كيف كان يموت الناس المحاصرون بلا أمل بين الكتل الإسمنتية التي تئن من صقيع بلادها ؟ كيف قضوا يعدون اللحظات معذبين تمزقت أجسادهم وهي تنزف، يا الله كم أحاول أن أهرب من صورة طفلة تغادر هذا الكون على وقع جنونه الذي فاق حدود المعقول في العذاب ..!
في المناطق التي تتعرض للزلازل لماذا تبني الشعوب والحكومات ذات جغرافيا مترامية في مناطق الزلازل ما دامت تعرف هذه المناطق الضعيفة ؟ ولماذا يشيدون هناك بيوتاً بارتفاعات قاتلة ؟ ولماذا لا يبنون بيوتاً مقاومة للزلازل ؟ ولماذا يستثمرون ويستنزفون موازناتهم في الأمن والجيوش وفيالق للقتال والموت ولا يستثمرون في أجهزة الحياة والإنقاذ ليتسولوا المساعدة والإغاثة مع أول كارثة ؟ نحن البشر لسنا أرحم على أنفسنا من الطبيعة، وقد نجد ألف جواب لكنها تبدو بعيدة عن الإنسانية في مشهد الزلزال.
البرد وحده سبب للموت لمن أمضوا ساعاتهم الأولى تحت الركام حيث تواطأ الطقس مع الزلزال لمضاعفة جريمة الموت. فلا أحد يظن بعد ساعات في هذا الطقس أن أحداً سينجو، وهذا ساهم في رفع أعداد الموتى. ولسوء حظ المنكوبين جاءت الكارثة في ذروة البرد والشتاء وفي تلك المناطق الجليدية ما فاقم من أزمة الناجين الذين هاموا على وجوههم المصدومة في الشوارع.
كل الأسماء تساوت وكل الأعداد التي تتزايد بالتتابع تزيد من الألم لمن يملك ذرة من الإنسانسة. فلا فرق بين موت وموت بين عربي وعجمي يتلقون نفس النهاية المؤلمة إلا لمن فقدوا إنسانيتهم وطغت حساباتهم المجردة من عواطفها ولمن يعتبرون البشر مجرد أرقام في بورصة السياسة والمال ولمن فقدوا قلوبهم وعقولهم.
كانت الإنسانية التي أصيبت بضربة شديدة تتابع بقلوب باكية بما تجمع لديها من فائض الحزن تفاصيل المأساة، وكانت تتأهب مع نداءات الاستغاثة وتحصي قوافل المساعدات وطواقم الإنقاذ وتراقب الدول وتعطي علامات لإنسانيتها وتراقب أيضاً انكشاف تلك الإنسانية وعريها لدول لم تكف عن الحديث عنها وفي لحظة ما كانت تجري حسابات السياسة بالفارق بين تركيا وسورية، تركيا التي انهالت عليها إغاثة من سبعين دولة منذ اللحظات الأولى وهي تستحق فتلك كارثة استدعت تكامل البشرية جمعاء وبين سورية التي وقف وزير خارجيتها يستغيث.
كان منسوب الأخلاق عالياً هذه المرة لدى كثير من الدول العربية التي أعلت من قيم الحضارة على حساسياتها وحساباتها وهي توزع نفسها بين شقي الكارثة بالتساوي بين تركيا وسورية، خاصة أن بعضها لم تكن بعلاقة سوية مع النظام السوري فسارعت الإمارات والسعودية والكويت، وكانت مصر تعبر عن مركزيتها كدولة لم تتنازل عن أبويتها التاريخية رغم ظروفها الصعبة والجزائر تعبر عن أصالة قوميتها وتونس والأردن وليبيا ولبنان والعراق أما فلسطين المنكوبة دوماً كانت أول من يعلن عن تضامن ضحية البشر مع ضحايا الطبيعة دون تمييز، فهي تعرف ماذا يعني هدم البيوت والموت بين الركام والتشرد وتعرف أكثر أن العالم مليء بالظلم والتمييز فتصرفت كما تحلم برسالتها الإنسانية.
هناك من دعم حالة الفوضى في سورية وأمدها بالمال والسلاح ولكنه تجاهل تلك الكارثة، وتجسدت الملهاة بأن الزلزال حدث في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية التي قام بشحنها وتحريضها وسلخها عن الدولة، وتلك تصلح للحكم على السياسة والأخلاق وكانت لحظة توزع فيها علامات الامتحان بعيداً عن وهج الإعلام في لحظة الحقيقة ...خسارة أنه ما زال هناك في هذا العالم من يجري حسابات السياسة وسط أنين الضحايا، هكذا تسقط المواقف.
«مئات العائلات تحت الأنقاض في سورية» هكذا صدر النداء الذي يقطع القلب، من يمكنه أن يتصور هذا ويتسامح مع السياسة التي تعاقب شعباً لموقفها السياسي من نظامه؟ وكيف يمكن أن يفهم جدوى تلك الكتب المكدسة عن احترام الإنسان كقيمة عليا عندما تخضع معاييرها لحسابات ثمنها آلام الإنسان في لحظة تستدعي أن تغيب عنها كل مصالح السياسة لصالح القيم ؟
لن تجف دموع البشرية قريباً، مئات من القصص الإنسانية ستستولي علينا لزمن طويل، وبطولات رجال الإنقاذ ستظل تمثل أسمى فعل بشري يعكس الفطرة الإنسانية قبل أن تلوثها السياسة.
وربما تستخلص تلك التجربة شيئاً مهماً لعالم يضع كل إمكانياته لبناء جيوش عسكرية، أليس من الأجدى تشكيل جيوش للدفاع المدني والإغاثة بعشرات الآلاف جاهزين للحظة طوارئ ؟
جيوش عابرة للحساسيات والحسابات والأديان والقوميات والعرقيات والمصالح على نمط ناتو مدني. ربما تشعر البشرية أنها تقوم بعمل مفيد أكثر من تلك الصراعات المميتة بينها ولتترك الموت تتكفل به الطبيعة فهي لا تقصر ....أسمع ذلك الأنين الخافت من تحت الأنقاض وأرى تلك الصورة لجثث تعذبت قبل الموت ...أسمع وجع الإنسانية وأرى دموعها ...محظوظون هم المجردون من كل هذا.