عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - مرت قبل أيام ذكرى رحيل جورج حبش حكيم الثورة الفلسطينية، وأحد رموز تاريخنا المعاصر الذين كان لهم دور كبير في بعث قضية شعبنا الفلسطيني من ملفات معدمة مهملة إلى قضية تحرر وطني. يرتبط اسم جورج حبش بذلك الزمن الجميل الذي كان فيه شعبنا قادراً على تغيير بوصلة التاريخ، وحرف النهايات المأساوية التي أرادها لنا المستعمرون بتواطؤ، وتدبير كوني واسع، ذلك الزمن الذي شهد ميلاد ثلة من القيادات الاستثنائية التي جعلت اللحظة الدامية لحظة أمل، وحوّلت العتمة إلى مسار واضح يخطو عليه شعب أريد له أن يتحول إلى ذكريات قديمة ويندثر. لكن بفعل تلك الإرادة والحياة التي بثها فيها جورج حبش وياسر عرفات ورفاقهما من الآباء المؤسسين بقي شعبنا الفلسطيني حياً.
مرت الآن خمسة عشر عاماً منذ تلك اللحظة التي غادر فيها جورج حبش هذا العالم، وظل حضوره متوهجاً يليق بدوره التاريخي في الثورة الفلسطينية وفي قيادة شعبنا طوال عقود تلت انطلاقة هذه الثورة، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت من جسم عربي لدى الفلسطينيين لتصبح ممثلهم لدى العالم. جورج حبش الذي ترك الطب والوظيفة والبحث عن تحقيق الذات من أجل البحث عن تحقيق حلم شعبه. إنه ذات الجيل الذي وجد نفسه يُقدَّم ضحية على عتبات المشروع الصهيوني الكولونيالي الإمبريالي، فقرر أن يتخلى عن كل شي من أجل خلاص شعبه، الخلاص الذي عني لحبش ولهذا الجيل شيئاً واحداً: فلسطين.
كنت وقت سمعت خبر رحيل جورج حبش أحتسى القهوة مع أحمد دحبور في مقهى ديليس في غزة. كان أحمد وقتها ما زال في غزة لم يغادر بعد إلى رام الله، كان يصارع الأمل حتى يبقى في غزة. في مساءات كثيرة كنا نلتقي في «ديليس» نتحدث ما نستطيع من الألم ودائماً عليك أن تتعلم من أحمد دحبور؛ فلديه الكثير الكثير الذي يمكن أن يقوله لشاب مثلي في ذلك الوقت. كان الجلوس معه معرفة ومتعة وخبرة. كان الوقت مساءً، وكان المقهى يضج بأحاديث روّاده، وصوت ماكينة طحن القهوة يواصل بعناد تحويل الحبات القاسية المحمصة إلى بودرة ناعمة، وشاشة التلفاز تعرض لنشرات أخبار لا تنتهي، وأنت لا تمل من النظر إليها أو سماعها؛ فأنت تعيش في مكان هو جزء من نشرات الأخبار تلك. كنت أعطي ظهري لشاشة التلفاز، فيما أبو يسار يسترق النظر إليها من فترة لأخرى وهو منشغل بمواصلة حديثه، ليتوقف فجأة ويقول بصدمة: جورج حبش مات. ظهر الخبر فجأة على الشاشة على الشريط كخبر عاجل.هبّ واقفاً كأنه يتأكد من الأمر. اقترب واقتربت أكثر من شاشة التلفاز، وكان الخبر العاجل الملون بالأحمر مثل دمعة دامية يؤكد الرحيل المؤلم لواحد من أسماء فلسطين، ولرمز من رموزها. ظل أبو يسار واجماً كأنه غير مصدق، فطلب تقليب المحطات المختلفة التي جاءت بالمزيد من التفاصيل والصور والحزن والسواد.
جورج حبش كان قائداً استثنائياً. أو ربما يجب القول فقط: إنه كان قائداً بكل ما في الكلمة من معنى، فالقائد قائد لا يمكن أن يكون شيئاً آخر.. كان يعرف مصلحة شعبه ويعرف كيف يقدرها، وحين يختلف مع رفاق دربه يعرف أن ثمة وطناً أكبر من التنظيمات وأن ثمة نضالاً وطنياً هو الطريق الوحيد الذي لا يجب أن نحيد عنه. ربما بالنظر إلى واقعنا الفلسطيني الآن مثلاً، وتأمل حالة الوضع الداخلي وكيف تحولت المعارضة الداخلية إلى عقبات أمام الوفاق الداخلي وليس طريقاً للبحث عن الأفضل، ندرك كيف كانت حكمة جورج حبش كزعيم التنظيم الفلسطيني الثاني لعقود في موازنة الأمر. لم يكن ليسمح أن تتغلب مواقفه الحزبية على موقفه الوطني، ولم يكن ثمة مصلحة حزبية مقابل مصلحة وطنية. كان الحكيم يعرف البوصلة، ويعرف كيف يقودها تجاه الهدف الحقيقي؛ لأن فلسطين هي الهدف كما اختار رفاقه تسمية المجلة التي حملت اسم الكبير غسان كنفاني محرراً لها.
إذا كانت فلسطين هي الهدف فإن البوصلة واضحة، وإذا كانت القدس هي زهرة المدائن فلا محج لعاصمة غيرها، وإذا كانت العروبة هي اللوحة الشاملة للحالة العربية فإن أي منظور خارجي مرفوض إلا إذا ارتكز على إسناد نضال شعبنا وكفاحه، لا توظيف هذا النضال في الصراعات الإقليمية. بالنسبة للحكيم لم يكن ياسر عرفات خصماً ولا منافساً سياسياً، كان شريكاً في النضال ورفيق درب، وكان يعرف أنه في اللحظات الحاسمة لا مناص من التوافق معه، والوقوف معه أمام أي هجوم عليه من أي قوة خارجية؛ لأنه لم يكن بالنسبة للحكيم من المسموح اللعب في التمثيل الفلسطيني. هناك أزمان نختلف فيها وهناك ربما أوقات يجب الاختلاف فيها، ولكن هذا الاختلاف لم يكن هدفاً بحد ذاته، وفي ذروته غير مسموح لأحد أن يتدخل من أجل إعادة صياغة التوجهات الوطنية. علّق الحكيم عضوية الجبهة في اللجنة التنفيذية، وبحث في لحظات عن أطر جبهوية عريضة من أجل تصويب ما رآه خاطئاً أو اختلف معه، لكنه كان يعرف كيف يزن الحالة الوطنية بميزان من ذهب حتى لا يفقد البوصلة، البوصلة التي تقول: إن المنظمة هي وطننا المعنوي ومظلة تمثيلنا الوحيدة.
يبدو تذكر كل ذلك مهماً ومفيداً لجيلنا وهو يراقب الحالة الوطنية، خاصة مع استمرار الانقسام المرير بعد لحظات الانقلاب الدامي في حزيران العام 2007، اللحظات التي لا بد أنها أدمت قلب الحكيم المتعب من رحلة طويلة من النضال والكفاح والمسيرة المعجونة بالألم منذ رأي المذابح في اللد بأمّ عينيه وهو شاب يافع. ذكرى رحيل جورج حبش مناسبة لتأمل الوضع الصحيح الذي يجب أن نكون عليه، الوضع الذي لا يكون فيه مناص من استعادة وحدتنا ووحدة هدفنا ونضالنا.