وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - ما الجدوى من الكتابة في غياب القراء؟ إنها مجرد تسلية بلهاء! هكذا قالت المفكرة الفرنسية سيمون ديبوفوار.
موضوع الكتابة وجدواها ذو شجون. فإذا انطلقنا من مقولة، إن الإصلاحات والتغيير للأحسن والتحرر ستتحقق عندما تتحول إلى قضية رأي عام، وان مهمة الكاتب تتلخص بإطلاق مبادرة لها جدوى. ولكن، عندما لا يوجد تأثير أو تأثر أو تغيير إيجابي ولا يوجد جدوى، مهما كان الجهد المبذول قويا من زاوية تحليل المعلومات والوقائع، نكون أمام مشكلة كبيرة.
إذا ما توفرت مادة تدافع عن حقوق النساء وتدعو إلى إزالة التمييز ضدهن، وترفض ممارسة العنف والتعدي على حريتهن، يتبادر إلى الذهن أن منظمات نسوية وأحزابا ونخبا وطلبة جامعات وكل من يتبنون أفكار الحرية والمساواة، سيهتمون ويستجيبون وربما يتداعون للانخراط في عملية الدفاع عن النساء. لكن ذلك لا يحدث باستثناءات قليلة، وكأن الكتابة في موضوع المرأة مجرد تسلية بلهاء كما تقول ديبوفوار. الشيء نفسه ينطبق على الكتابة في قضايا العمال والاستغلال التي يتعرضون لها، إزاء ذلك يحدث تجاهل من قبل الأحزاب والنقابات التي تقول، إنها تمثل الطبقة العاملة وفكرها، في الوقت الذي تفتقد فيه إلى مبادرات.
قد يفسر ضعف القراءة والحوار والتفاعل حول ما يطرح من أفكار ومواقف في الصحف والمجلات، إلى انتقال مهمة تشكيل الرأي العام، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وللنشطاء الأكثر حضورا فيها. باستثناء بعض القضايا الوطنية وتحديدا الاعتداءات الإسرائيلية وقمع السلطتين في الضفة والقطاع للحريات، ما عدا ذلك، نجد التأثير والتفاعل محدودا، بالعكس تحول الاستقطاب في "فيسبوك" إلى ما يشبه انحيازات زبائنية، واحتفالات بأعياد الميلاد، وتقديم التعازي بالأموات، وإعجابات بمدونين مقتدرين على جذب الاهتمام وحصد "اللايكات"، بدون مضمون.
لا ينفصل الهمود في فلسطين عن الهمود في مراكز اشتهرت بإنتاج الفكر والمواقف وحرارة الاستقطابات والتفاعل. حيث ضاق هامش المواقع الإعلامية التي تثري المعرفة في الحقول السياسية والثقافية والاجتماعية وتكاد تقتصر المواقع الفاعلة على لون سياسي واحد ممول بسخاء. ولا ينفصل همود مراكز وبؤر الفكر والتغيير، عن الهزائم التي لحقت بالانتفاضات والثورات في البلدان العربية، وعن تراجع المثقفين. وعن الحالة الصعبة للأحزاب والتنظيمات. من يدقق في حضور الصحافة المنقولة أو المترجمة في إذاعة "مونت كارلو" وفي الـ"بي بي سي/ نت" وغيرهما، سيجد حضورا شبه يومي للون واحد، هو ما تقدمه بعض الصحف الخليجية باعتبارها مرآة للموقف العربي المسيطر بالمال. في الوقت الذي يغيب فيه كتاب صحف ومجلات مصرية ولبنانية ومغربية وفلسطينية وغير ذلك. وفي البحث عن مراجع معرفية، ثمة مشكلة لها علاقة بحرية التعبير، فالمثقفون والإعلاميون العرب المستقطبون في الصحافة الخليجية، يفتقدون حرية التعبير، من خلال ممارستهم لرقابة ذاتية، فلا يستطيعون مثلا نقد اتفاقات التحالف والتطبيع العربية مع دولة "الأبارتهايد" والاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، إلا في حدود ضيقة وفي مناسبات قليلة.
كان موقع الحوار المتمدن الإلكتروني غنيا بكتّاب وبمعالجات سياسية وفكرية مهمة، لكنه تراجع وصار من المتعذر العثور على مواد قيّمة، بعد أن هجره كتاب كثيرون وانخفض مستواه. لكن الخسارة الأكبر حدثت بعد توقف موقع "الأوان" الإلكتروني الذي أطلقته جمعية الأوان وكان زاخرا بالمواد والحوارات والدراسات والأبحاث في مجال الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية والتاريخ والفنون، وكان مميزا بحرية تعبير قل نظيرها في العالم العربي، حرية أزالت القيود عن العقول قولا وفعلا. ودافعت عن العقلانية والعلمانية والتنوير. هذا الموقع الذي استقطب أهم الكفاءات في المغرب والمشرق العربيين وعلى صعيد عالمي، وشكل مرجعية فكرية ومعرفية وعنوانا للحوار. لكنه لم يصمد طويلا واختفى ولا أقول انطفأ بدون معرفة الأسباب.
أوجد رأسماليو القطاع الخاص المصري في عهد نظام حسني مبارك، هامشا لحرية التفكير والنقد الذي انتزعته الحراكات المجتمعية والثقافية، لكنهم سرعان ما تراجعوا بعد هزيمة الانتفاضة الشعبية وتكيفوا مع الواقع الجديد رافعين رايتهم البيضاء. وكان الملحق الثقافي في جريدة النهار منفتحا وغنيا بتقديم منتجات ثقافية وإبداعية على درجة عالية من الأهمية. لكنه تراجع وأصبح متواضعا مقارنة بالطفرة السابقة. في ظل هذه الأوضاع، سيجد الكاتب والقارئ صعوبة في اعتماد مرجعيات ومصادر يمكن الركون عليها في البحث عن أجزاء الحقيقة المتناثرة والمعرفة الموضوعية. الآن، لا يوجد موقع محدد يمكن الاعتماد عليه، ولكن يوجد كتاب ومثقفون وفنانون يمكن متابعتهم والثقة بهم كأفراد متناثرين في العديد من المواقع. أصبح البحث عن الاسم الفرد هو الأهم. وعلى المهتم أن يفتش عن هؤلاء المنتمين لجنسيات مختلفة في صحف ومواقع ومدونات عديدة.
صحيح أن بعض المنابر الثقافية حافظت على هامش مقبول في مجال الثقافة، لكن وبمجرد معرفة دعمها من بعض أقطاب الهيمنة المالية، سرعان ما تهتز الثقة، وتطرح الأسئلة عن الأجندات والوظائف غير المعلنة في ذلك السوق الذي يحتكره أصحاب المال. ومنابر أخرى نجت قليلا بابتعادها عن السياسة حيث لا ينفع فصل الثقافة عن السياسة كأخبار الأدب ومجلة "إبداع" في مصر، ومجلة "نزوى" في عمان. وانضمت مجلات ثقافية جديدة تمتعت باستقلالية وبمصداقية كمجلة "بدايات" التي يترأس تحريرها فواز طرابلسي. وبقيت مجلة الثقافة العالمية الكويتية المترجمة جسرا يربط المهتمين بالثقافة العالمية، وكذلك الكتاب الدوري الذي تقدمه مجلة عالم المعرفة.
في مرحلة التوحش الرأسمالي قلت المنابر الناجية، وقل المثقفون والكتاب الناجون، وقلت المبادئ ومنظومة قيم التحرر. وكأن أصحاب المال يودون إعلان انتصارهم، ولكن ما هو مؤكد أن العلاقة بين الكتاب والقراء تضعضعت مع وجود استثناءات ويبقى سؤال كيف السبيل إلى خلق التفاعل. إنها مسؤولية متبادلة.