وكالات - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - على مدى أكثر من أحد عشر شهراً من القتال في أوكرانيا تغيّرت الأهداف والاستراتيجيات الغربية في ضوء النتائج التي تمخّضت عنها هذه الحرب.
لا نتحدث هنا عن المخططات الغربية ضد الدولة الروسية، والتي بدأ مسارها التنفيذي المباشر على مدى عقد كامل من الزمن، ومنذ الانقلاب الذي قاده الغرب في أوكرانيا، ولا نتحدث عن «مكيدة» ألمانيا وفرنسا في اتفاق «مينسك» بدعم وتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة، ولا نتحدث عن حرب التطهير التي خاضتها القوات الأوكرانية والمنظمات النازية ضد كل ما هو روسي، أو يمتّ بصلة للدولة الروسية، واللغة الروسية، ولا عن القتل المنهجي المنظّم للسكان المدنيين في الدونباس بذنب «وحيد» وهو رغبتهم بالاستقلال والتحرر من بطش القوات الأوكرانية ووحشية المنظمات النازية المدعومة والمموّلة من هذه القوات، وإنما نتحدث عن التغيرات التي طرأت على هذه الأهداف والاستراتيجيات بدءاً من بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في شهر شباط من العام الماضي.
كما نعرف فقد «أعلن» الغرب آنذاك أنه سيلحق هزيمة مُنكرة بالقوات الروسية، وأن روسيا ستقع في «مستنقع» أوكرانيا وستكون نهايتها هناك كنهاية القوات السوفياتية في أفغانستان، وأن الاقتصاد الروسي سينهار بالكامل نتيجة للعقوبات الاقتصادية الغربية و»الدولية»، وأن القوات «الغازية» ستتقهقر هناك بعد أن يتم استنزافها وتحطيمها.
الغرب في حينه «أعد» سيناريوهات هذه الهزيمة العسكرية، وانبرى خبراء الغرب في «توضيح» معالم هذه الهزيمة، وشارك على التوازي مع هؤلاء الخبراء، خبراء آخرون في العلوم الاقتصادية والمالية، وحتى العلوم الاجتماعية في «انعكاس» الهزيمة العسكرية و»الانهيار» الاقتصادي على المجتمع الروسي، والذي سيثور حتماً لإسقاط نظام بوتين» وينتهي النظام «الأوليغارشي» فيها.
ترافق ــ كما تذكرون ــ كل هذا التصور، وكل هذه السيناريوهات مع حملات إعلامية لم يسبق لها مثيل في التاريخ كله، وصوّرت أجهزة الإعلام الغربية هذه العمليات العسكرية بأنها الحرب «المتوحّشة» ضد السكان المدنيين، ووصلت الأكاذيب ووصل التضليل إلى حدود مخزية ومضحكة، وفقد الغرب كل اتزان، وانهارت أكاذيبه ومعاييره، وانكشف الخداع الذي مارسه على شعوب الغرب وشعوب العالم، وظهر على حقيقته العنصرية في التعامل مع قضايا الشعوب وحقوقها.
سقطت كل سيناريوهات الغرب الاقتصادية والعسكرية، وسقطت في العار منظومته الإعلامية والأخلاقية، وكل ما حدث حتى الآن هو الصورة المعاكسة والمغايرة لكامل هذه التصورات والسيناريوهات.
الدعم الغربي لأوكرانيا وصل إلى حدود هستيرية، وتم تصوير أوكرانيا على أنها «الحصن المنيع» الذي يصدّ القوات الروسية ويحمي أوروبا، ويدافع عن قيمه وأمنه في وجه الروس القادمين لاجتياح أوروبا كلها، ووصل هذا الدعم حتى الآن إلى مئات المليارات، بالرغم من الأزمات الاقتصادية وكذلك الاجتماعية التي ضربت الغرب كله، وبالرغم من كبح جماح التضخم وتفادي الركود، وبالرغم من إفلاس قطاعات بكاملها وإغلاق عشرات آلاف المؤسسات والمصانع، وبدء هروب الشركات الغربية نفسها إلى الصين وبلدان أخرى، وحتى على المستوى العسكري أفرغ حلف «الناتو» معظم مخزوناته العسكرية من الأسلحة السوفياتية بالكامل، واستهلك أكثر من نصف مخزوناته من الأسلحة الغربية حتى الآن.
الواقع اليوم يقول إن الأزمة ارتدّت إلى الغرب، وروسيا هي التي تستنزف الغرب على الأراضي الأوكرانية، وروسيا هي التي تمتلك زمام المبادرة والهجوم، وأصبح منع الانتصار الروسي الساحق هو أبعد الأهداف الغربية وأقصاها، وتحول «الانتصار» الأوكراني إلى ضرب من الجنون والمستحيل.
والواقع اليوم يقول إن انهيار الاقتصاد الروسي لم يكن سوى أمنيات من صنع المخيال الغربي المريض، ومن فبركة آلاته الإعلامية المخادعة والضلالية والتضليلية.
أمام هذا الواقع وقع الغرب في ورطة لا يعرف كيف سيخرج منها حتى الآن.
استراتيجية الغرب وأهدافه تتقلّص يوماً بعد يوم و»تتواضع» هذه الأهداف في ضوء الوقائع القائمة على الأرض، و»وحدة» الغرب تتداعى شيئاً فشيئاً، ويتصدّع الستار الحديدي الذي ضربه الغرب على الدولة الروسية.
الغرب الذي خطّط لتقويض روسيا تحضيراً لمحاصرة التمدد الاقتصادي للصين وجد نفسه اليوم عاجزاً عن حماية نفسه من ارتدادات مؤامراته على روسيا، وبات يعي أن الخروج من هذه الورطة بأقل الخسائر الممكنة هو بمثابة الهدف الوحيد الممكن على صعوبته البالغة.
آخر ما في جعبة الغرب ــ وهو الورقة الأخيرة قبل إنهاء هذه الحرب إذا كان الغرب ما زال يخشى تحولها إلى حرب عالمية مدمّرة ــ هو «دعم» أوكرانيا بالأسلحة الهجومية الغربية، وآخر ما أنتجته مصانع الغرب من الدبابات والمنظومات الهجومية المتقدمة، بما فيها تلك التي تستطيع بها أوكرانيا ضرب وتهديد المدن الروسية والمرافق والمواقع العسكرية الروسية داخل الأراضي الروسية.
الغرب يعرف ويعي تماماً أن هذا كله لن يغير جوهرياً في مسار القتال، ولكنه «يعتقد» أن هذا هو السبيل الممكن للخروج من هذه الحرب بأقل الخسائر الاستراتيجية على مستوى الدور الكوني للغرب، وعلى مستوى حدود بقاء سيطرته على مقدّرات العالم وشعوبه، ومنع روسيا والصين والدول الصاعدة من «احتلال» دورها ومكانتها في العالم الجديد، بل ومنع الشعوب من حرية اختيار حلفائها، وكذلك شركائها وأصدقائها.
الأمر ليس بهذه البساطة، وروسيا لن تسمح للغرب باستثمار هذه الورقة الأخيرة في لعبة القمار التي يمارسها الغرب.
عندما ينتقل الغرب كله إلى هذا المستوى من الدعم لنظام أوكرانيا الخائب، والذي بدأ بالتفكك الداخلي على ما يبدو، فإن الحرب الغربية على روسيا تكون قد وصلت إلى حدود لا رجعة عنها، ويصبح التهديد ماثلاً وواقعاً قائماً، فإن طبيعة الحرب تتغير، ويصبح طابعها مختلفاً بصورة نوعية جديدة وخطيرة.
ستختلف الأمور جذرياً في حالة أن أقدم الغرب على هذه المقامرة، ولن تعتبر روسيا أن الأمر هنا يتعلق بنوعية السلاح، وإنما بدرجة التهديد الجديد، وهو سيكون في نظرها مرحلة أخطر من التهديد القديم الذي اضطرها إلى دخول أوكرانيا للقضاء عليه، وبالتالي فإن الغرب هنا يلعب بالنار، ويكون قد «أهدر» دم أوكرانيا كلها، وقدمها كهدفٍ مباشر للتدمير الكامل كمبرر لوقف الحرب والذهاب إلى مساومة مع موسكو، أو «لإقناع» روسيا بضرورة إنهاء هذه الحرب «بتنازلات» روسية كبيرة.
الغرب الذي يتعامل مع شعوب الأرض كلها بعقلية المستشرق المدجّج بالسلاح والعنصرية والوحشية لا يفهم أن روسيا ستعتبر الحرب في هذه الحالة الجولة الثالثة من الحرب الوطنية، وستعتبر أن الانتصار في هذه الحرب هو مسألة حياة أو موت، تماماً كما الأمر عندما تصدّت روسيا لنابليون وهتلر وليس أمامها إلّا الانتصار كما قال «ميدفيديف» بالضبط.