وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - شاهدتُ برنامج "ما خفي أعظم" على قناة الجزيرة، والذي خُصّص للحديث عن المقاومة في الضفة الغربية. وللحقيقة، لم أجد فيه أي جديد، وكل ما جاء فيه معلوم لأي متابع للشأن الفلسطيني، باستثناء بعض الإضافات غير المهمة، لكن ما دفعني للكتابة عن البرنامج الرسائل الضمنية الخطيرة التي حاول إيصالها للجمهور، خاصة مع حجم التفاعل مع البرنامج، وردود الأفعال المتباينة حوله.
وأظن أنَّ أي مشاهدٍ للبرنامج، إذا لم يكن مطلعا بشكل جيد على الوضع الفلسطيني، سيخرج بالنتائج التالية:
المقاومة الفلسطينية بدأت في العام 2021، مع تشكل "كتيبة جنين"، ثم بلغت ذروتها في العام 2022 مع ظهور "عرين الأسود"، وكل النضال الوطني قبل ذلك لا أثر له في البرنامج!
"كتيبة جنين" تابعة لسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أما "عرين الأسود" فقد ظهرت في نابلس فجأة، ودون مقدمات، وليس لها أي صلة بالتنظيمات الفلسطينية! وهنا إخفاء متعمد لكتائب شهداء الأقصى التي يشكل أعضاؤها الغالبية العظمى من أبناء العرين.
"كتيبة جنين" ظهرت مباشرة بعد معركة "سيف القدس"، علما أنه لا توجد علاقة بين الحدثين سوى التتابع الزمني، ولكن على ما يبدو أراد البرنامج التغطية على إخفاق "حماس"، ودخولها المعركة بشكل أدى إلى نزع الطابع الجماهيري عن المواجهات التي كانت قد اندلعت في القدس، وانتقلت إلى الضفة الغربية ومدن الداخل، وكانت على وشك التحول إلى انتفاضة شعبية.
في المقابلات، تحدث القادة الميدانيون وأبرزوا دور بقية الفصائل الوطنية، وركزوا على أهمية الوحدة الميدانية، وتكامل الأدوار.. وأكدوا أنّ موقفهم من السلطة إيجابي، وأنهم يتفهمون وضعها.. لكن معد الحلقة تمكن ببراعة من استبدال هذه الحقيقة بإبراز دور "حماس"، وكأنها اللاعب الوحيد في الساحة! وأنّ المقاومة والسلطة على طرفي نقيض، وبينهما حالة عداء!
بعد عرض بطولات "كتيبة جنين" و"عرين الأسود" فجأة، يصبح "مصعب إشتية" هو بطل الحلقة، وتصبح رسالته المسربة من سجون السلطة هي الحدث الأهم!
السلطة قامت بمساومة مناضلي العرين، بأن يتخلوا عن أسلحتهم مقابل حصولهم على مكافآت مالية (شقة، سيارة، راتب..). وهنا ليس الموضوع إساءة لمناضلي العرين وحسب، بل أيضا الإساءة للسلطة، وهذا بيت القصيد، فالسلطة لا تمارس النضال وحسب، بل تمنع أي أحد من ممارسته.. علما أن ما حدث عمليا هو أن المخابرات الإسرائيلية تعرفت على جميع أفراد العرين، وقررت اغتيالهم، فقام بعض أبناء العرين بتسليم أنفسهم للسلطة طواعية ودون ضغط من أحد، ولثقتهم بها، ومن أجل حمايتهم، وهذا ما جاء في بيان العرين الرسمي، وفي تصريحات قادتها.  
يبرز البرنامج تصريحات قادة إسرائيليين وهم يحمّلون السلطة المسؤولية عن تصاعد المقاومة في جنين ونابلس لأنها لا تتدخل، ولا تفعل شيئا إزاء ذلك، وبالتالي من واجب إسرائيل التدخل.. فهل نسيت السلطة أو تقاعست عن دورها في التنسيق الأمني؟ أم أنها فعلت ذلك عن وعي وإرادة؟ مقدم البرنامج هو من يجيب بطريقة الرسائل الضمنية.
اللافت للانتباه أن برنامج "ما خفي أعظم" مخصص فقط لإبراز دور "حماس"، وتحسين صورتها أمام الرأي العام، وإلى هنا لا اعتراض لدي، فمن حق "الجزيرة" تلميع صورة "حماس" طالما أن رؤساءها من "الإخوان"، ولا أطالبها بالحياد، لأنه لا يوجد في الإعلام شيء اسمه حياد.. ولكن على الأقل أن تتحلى ببعض الموضوعية والمهنية.. والمريب فيما تقوم به الجزيرة يتلخص في ثلاث نقاط، الأولى: تضخيم قوة "حماس"، والمقاومة بشكل عام، والادعاء بأنها تمتلك قوة صاروخية رهيبة، وترسانة أسلحة تهدد إسرائيل.. والخطورة هنا تكمن في منح إسرائيل المبرر القانوني والأخلاقي لقصف غزة واجتياح مدن الضفة واغتيال المناضلين، طالما أن هناك قوة عسكرية كبيرة تهدد مواطنيها. وقد منح البرنامج مساحة كافية للمسؤول الإسرائيلي للتحريض على المقاومة، وتبرير حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!
وتضخيم قوة العدو من أهم التقنيات المتبعة التي تسبق الهجوم العسكري، وهو ضروري لإعطاء التبريرات، والتحريض، وتهيئة الرأي العام، وتحشيد العالم.. إلخ.. وكلنا يتذكر كيف ضخَّم الإعلام الأميركي قوة العراق قبل حرب الخليج الأولى والثانية والادعاء أنه يمتلك المدفع العملاق، وأسلحة الدمار الشامل، وأن الجيش العراقي رابع أقوى جيش في العالم.. وكلنا يعرف النتيجة.
الثانية: الخطورة الأمنية في مقابلة مطاردين وقادة ميدانيين على قائمة الاغتيالات؛ إذ تكفي صورة للعينين، وبصمة الصوت، وهيئة الجسد للتعرف عليه، وتصريحاته ستكون دليل إدانة له.. وهناك تجارب سابقة للجزيرة حيث تمكنت المخابرات الأميركية وغيرها من اعتقال مطلوبين لديها بعد أن قامت "الجزيرة" بمقابلتهم.
الثالثة: إبراز دور "حماس" النضالي دون غيرها، وغرس بذور الفتنة، وتعزيز الخلافات الداخلية، وتغذية الانقسام، وتصوير المسألة وكأنها تنافس حزبي على من قدم تضحيات أكثر.. لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يضرها، ويفتت الوحدة الوطنية.
أما ملاحظاتي على البرنامج بشكل عام، فهو عبارة عن تهويمات لا معنى لها، ومبالغات، وخطاب إنشائي شعبوي، انتقائي، ينزع الكلام عن سياقاته، وباستخدام تقنيات وقوالب إعلامية معروفة، مهمتها خلق جو نفسي من الغموض يسهّل تمرير الرسائل الضمنية، ويغطّي على عيوب ونواقص البرنامج، ويعوض عن قدرات المعد المتواضعة، وأدائه الأقرب للتمثيل، وإكثاره من عبارات "ترتيبات أمنية معقدة" (وهي مجرد أخذ موعد مع شخص يرغب باللقاء أصلا)، و"صور حصرية" (لا تقدم أي إضافة)، أما التشويق فهو فقط لأصحاب المواقف المسبقة، بينما من يبحث عن الحقيقة لن يجد شيئا ذا قيمة.
حاول البرنامج إخفاء دور "فتح"، وكأنه لا وجود لها على الأرض، وليس لها أي تأثير على الساحة! والغريب أن البرنامج حمل عنوان "ما خفي أعظم"، وربما تكون مصادفة غير سعيدة، لأنه حقاً ما خفي (وما حاولت الجزيرة إخفاءه) كان دوما أعظم وأكثر رسوخا.. وتلك حقيقة دامغة تدركها الجماهير الفلسطينية والعربية، ولن تستطيع "الجزيرة" وغيرها إخفاءها مهما امتلكت من وسائل إعلامية وقدرات بهلوانية، فالشمس لا تُغطى بغربال.