وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - نكتب «أمطرت السماء»، ونحكي «أشتت الدنيا»، وما نحكيه «أفصح» ممّا نكتبه. إذا أمطرت تغيّرت «الدنيا»: صورة (من ضوء إلى ظلال)، وصوتاً (من حفيف الهواء إلى عَصف الريح).
عناصر المشهد (الدنيا) تنقلب من حالٍ إلى حال.
لأسبابٍ مُقاربة نحكي «الدنيا شوب»، وإن كتبنا «الجوّ حار» أو «يوم قيظ». عمّا قليل «راح نشوف» «دنيا الشتا ودنيا الشوب»، قبل أن نحسّ بقرّ الشتاء وحرّ الصيف، لأن لغة الطقس الناطقة بالإنكليزية تكاد تختصر المطر بحرف «L» أي «منخفضا جوّيا» والحرّ   بـ»H» أي «مرتفعا جوّيا».
الفرنسية أكثر دقّة في دلالةِ هذين الرمزين: «A» مرتفع جوّي «Anti-cyclone» وأمّا المنخفض الجوّي فهو «C» أي «Cyclone»، وتفسير الأمر بسيط: فرنسا دولة، متوسطيّة (ولو جزئيّاً) وأمطار البحر المتوسط «زوبعيّة» أي «سيكلونية» غالباً، لأنها منطقة «فوق مدارية» في تقسيم بطّيخة الأرض إلى خطوط عرض وخطوط طول (ميريديان).
نعود إلى اللّغة: الغيوم هي السحاب، لكن السحاب المطير هي «المازنة». لذلك، يُقال في الأسماء «مازن» بمعنى «خيره فيه» أي ماءه في سحابه، أي «سمنة بلدية» وليست مخفّفة أو «مقشورة» من خيرها «Skimed» كما يفعلون بمستحضرات الحليب والأجبان الخاصّة .. بالنحافة والرهافة والقدّ الميّاس، وهرباً من «الكوليسترول»!
في اللّغة، أيضاً، إن الطاولة (طاولة الطعام حصراً) ليست هي المائدة.. إلاّ إذا كانت عامرة، سواء بما لذّ وطاب، أو بما «يقيم الأود»، فإذا رُفِعت الأطباق عنها صارت «خوان»، وربّما «المأدبة» مزيجٌ من كلمتي «المائدة» و»أدب» تناول الطعام!
***
ليلة 9-10 كانون الأول، حبلت السحب العاقرة، فصارت «مُزناً»، وهبط مطر المُزن هبوطاً ليّناً على أرضٍ عطشى، كما لم تعطش منذ 56 عاماً. هذا «الهبوطُ الموفّق» و»الليّن»، سيقوم بـ»تبليل» التربة، وتليين مفاصلها المتيبّسة. فلو هبط المطر مدراراً، ما كان السحاب مُزْناً، ولا المُزْن غَيثاً، لأن «الغيث» هو السّحاب المازن الذي يغيث الزرع والضرع.. فيُطفئُ عطشهما مَهْلاً على مَهْل، كما تفعل ربّة البيت إذا أضافت الماء، رُويداً رُويداً، إلى الطحين، لتعجنه وتخبزه أو تقدّمه «كيكاً» أي ضرباً من أضراب حلويات الكعك.
***
في لغاتٍ أُخرى، لبلادٍ وشعوبٍ أُخرى ذات أمطارٍ وافرة التهطال، يقولون: «رتيب كالمطر» أو «مُمِلّ كالمطر».. وليست أمطار منطقتنا المتوسّطيّة «فوق المدارية» رتيبة، وليس تهطالها «مُمِلّاً»، لأنها تعصف ساعاتٍ وتهدأ، فهي زوبعية أي «سيكلونية» (من دوامة الدائرة) «Cycle».
مناخ بلادنا ذو أربعة فصولٍ واضحة، انقلابان (شتويّ وصيفيّ) واعتدالان (ربيعيّ وخريفيّ)، لكن طوّح طقس استثنائي، العام المنصرم، بـ»الاعتدالين» الربيعي ثم الخريفي، فجاء الانقلاب الصيفي فجائياً أواخر نيسان، فأحرق الربيع.. وأناخ أكثر فصول الصيف قَيظاً خلال نصف قرن وأكثر بكلكله (كما قال شاعرنا القديم عن الليل الطويل)، ثم التهم ذلك الصيف «الاعتدال الخريفي».. وأهدانا إلى «الانقلاب الشتويّ».
نرجو أن يكون الشتاء شتوياً وأن «تشتي الدنيا» بكل عناصر الشتاء .. وأن «تزبط» توقعات الأرصاد الجويّة بتهطال عامٍ شتويٍّ يفوق 10-15% تهطال العام الفائت.
وعلى نحو العموم، تدريجياً تنضمّ كتيبة الخريف إلى جيش الصيف، وسريّة الربيع إلى فيلق الشتاء. حيث يأكل الصيف والشتاء من صحنيّ الربيع والخريف. أي: التطرّف يأتي على الاعتدال، كما هو حال مزاج الناس في هذه المنطقة، عرباً ويهوداً، بينما يعتدل مزاج الناس في البلاد الاستوائية وتحت القطبية، برغم أنّ الله حباها بفصلَيْن اثنين وحرمها، تقريباً، من جمالات الاعتدالين: الخريفي والربيعي.
***
الأعوام الأخيرة، في «الدنيا»، أي على نطاق العام، سخرت من عبارة «رتيب»، «مُمِلّ» كالمطر.. الذي صار تهطاله طوفانياً و»قياسيّاً» من الصين شرقاً إلى أميركا اللاتينية غرباً. هكذا لم تعد مدينة البندقيّة «فينيسيا» فريدة في شوارعها النهرية.
زهاء 33 ألف ضحيّة اخترمت «يد المطر» في العالم، العام الفائت، مُسبّبة خسائر تقديرها 84 مليار دولار. عدد ضحايا الطوفانات فاق عدد ضحايا الحروب، لكن حرباً واحدة حديثة وواسعة النطاق قد تكلّف 600 مليار دولار (حرب عاصفة الصحراء)، غير أن «حوادث الطرق» على نطاق العالم، تخترم عدداً من «الحيوات» يفوق ما تفعله يد المطر المدرار.
***
بعدما يرحل الاحتلال، قد يستطيع الفلسطينيّون تحويل هذه التّلال إلى ما يُشبه «حدائق مُعلّقة»، ببناء سلسلةٍ من السُّدُود السطحية الرُّكاميّة في كل فجٍّ وواد مناسب، وحجز بحيرات صناعية صغيرة.
الأمن الاستراتيجي مربوط بالأمن المائي، وهذا بمستوى «بحيرة طبريا» .. لذلك: «شَتِّي يا دُنيا شَتِّي»، لأنّنا نُعاني كفاية من ربطهم السلام بعجلة الأمن.
«شَتِّي يا دُنيا شَتِّي».