وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - حتى لو لم نتفق على غائيّة وجود الكون، والهدف من خلق الإنسان، فكل واحدٍ منا يستطيع، بل ويجب عليه، أن يوجِد هذه الغاية، وأن يحدد لحياته هدفاً، حتى يكون لوجوده معنى ولكيانه قيمة.. مع أنّ أكثر الناس راحة أولئك الذين لم يحملوا الدنيا على مجمل الجد.
المسألة الثانية، أننا مهما حاولنا فهم كُنْه الحياة، لن نفهمها بشكل كلي ومطلق، فلكل شخص فهمه الخاص، والمختلف. البعض فهم معنى الحياة من خلال الدين، واختزلها به، وهناك من وجدها في الحب، أو التصوف، أو في المال والوظيفة والمكانة الاجتماعية، وهناك من وجدها في السياسة والنضال، أو في هواية محببة، أو في الموسيقى، أو في السفر، أو في الكتابة.
نرى الكون من حولنا، ونحس بالحياة، وندركها من خلال حواسنا، فكل ما نشاهده، أو نسمعه، أو نتذوقه، وما نشتمّه ونلمسه، حتى مشاعر الحب والكراهية، والحزن والغضب، والتعاطف واللامبالاة، عبارة عن إشارات كهربائية ترسلها المستقبلات في أجسادنا إلى الدماغ، فنستوعبها، ونعطيها المعنى والقيمة ونطلق عليها الأحكام. وفي كثير من الأحيان يكون تفاعلنا مع أنفسنا، ومع المحيط الاجتماعي، واتخاذنا للمواقف المختلفة، عبارة عن تفاعل هرمونات داخل الدماغ. وأيضاً معظم فهمنا للحياة مخزن في ذاكرتنا العميقة، والتي تم ملؤها في فترات سابقة من خلال الآخرين، بما يسمى الموروث الديني والاجتماعي والفكري، أو الثقافة الجمعية.
وأحياناً نعيش حياة افتراضية (غير واقعية) كما يحدث معنا في الحلم، أو في الذكريات، أو أثناء مشاهدة فيلم، أو قراءة رواية، أو في ألعاب الفيديو.
وبالتالي، أيّ معنى لحياتنا هو ما نعطيه نحن لها، المهم أن تحدد الهدف والغاية بنفسك، وأن تنشئ فهمك الخاص متحرراً من سطوة الموروث، فقيمة الحياة الأهم هي الحرية، وأثمن ما في الحرية حرية الفكر والاختيار. والأهم أن تعيش حياة مليئة بالحياة، مع التأكيد على عدم وجود أي طريق معبد، أو «بروسيجر» محدد يجب إتباعه.
يلعب الحظ دوراً كبيراً في حيواتنا، فهو الذي يحدد هويتنا القومية والدينية ومكانتنا الاجتماعية والاقتصادية، وفرص التعليم والعمل. ولكن يمكن التغلب على الحظ السيئ، وعدم الاستسلام للقدر بالإرادة والمثابرة، مع الحذر من مقولات خبراء التنمية البشرية، فأغلبها مقولات تسطيحية متعالية، ولا تستند إلى علم حقيقي.
وأيضاً، مهما حاولنا لن نتوصل إلى السعادة الكاملة، يكفي أن نشعر بالرضا والسكون الداخلي، وأن نخلّص النفسَ من شرورها، ومن شقائها وعذاباتها التي لازمتنا طوال رحلتنا الطويلة؛ فالسعادة بأحد معانيها هي تصالح مع الشقاء.
فالإنسان لن يتحرر من أسئلته ولن يتخلص من معاناته طالما هو إنسان ويفكر ويستخدم عقله، ويتأمل في الوجود، لكنه قد يجد ضالته في أبسط الأشياء، وقد يعثر على سعادته مختبئة في ركن ما حيث لا يتوقع، فالسعادة توجد حينما نعمل على خلقها، ولكنها قياساً بعذابات البشرية تظل قارباً في بحر من المعاناة والألم.
منذ أقدم الأزمان، والخلود هاجس الإنسان وقلقِه، وغايته التي لا تُدرك، وأمنيته العصيّة على التحقيق، وقد ظلَّ الإنسان رافضاً لفكرة الموت والفناء، مدفوعاً بغريزة البقاء أو بنرجسيته التي طالما صوّرته مختلفاً عن بقية المخلوقات ومتعالياً عليها؛ فعندما كان يرى غيره يموت ويذوي ويتحلل في نظام الطبيعة ويتحول إلى سماد، ثم يصير نسياً منسياً، لجأ للتكاثر والإنجاب، وتمديد حياته عبر أبنائه الذين سيحملون اسمه، أو لتخليد ذكراه عبر عمل فني أو بناءٍ ضخم، أو كتاب أو قصيدة، أو مشروع مبهر. وزيادة على ذلك اخترع لنفسه أسطورة الخلود وفكرة الحياة ما بعد الموت، وابتكر فنون التحنيط، ودفْن الميت بأبهى صورة مع مقتنياته الشخصية التي سيحتاجها في الدار الآخرة. ومع ذلك، أخفق تماماً في الخلود، كما نجد ذلك بوضوح في ملحمة «جلجامش»، أول وأجمل نص بشري إبداعي صوّر رحلة البحث عن الخلود.
ومقابل التشبث بالحياة، أحياناً، قد يرغب البعض بإنهاء حياته بنفسه، لأسباب عديدة، لا أدري، هل تلك شجاعة لمواجهة الموت أم جُبنٌ في مواجهة الحياة؟ ذلك سؤال إشكالي. وهناك المضحون بأنفسهم لغايات نبيلة، أما من يفجّرون أنفسهم في الأماكن العامة فأولئك مجرد قتلة. وأحياناً، قد يتعب المرء من الحياة وشقائها، أو من مرضٍ مزمن لا يُرجى شفاؤه، فيرغب بالموت ليستريح ويريح. ربما وحدها سويسرا من تسمح بِـ»الموت الرحيم».
مقابل غائية الحياة، واحتجاجاً على غيابها، أو غياب عناصر الجمال منها، وبسبب خيبة الأمل من نظام الحياة نفسه، بسبب غياب النظام، وغياب الخير والعدل في هذا العالم تولدت فكرة العدمية، والاعتقاد باللامعنى للحياة، واللاجدوى، أو العبثية بحسب «الوجودية»، التي بنت فكرها على مقولة: «إننا مخلوقات تحتاج إلى معنى، ولكن تم التخلي عنا في كون مليء باللامعنى، فنحن نتضرع طلباً لشيء ما، دون أن تكون هناك استجابة لنا، ورغم ذلك نستمر في التضرع في جميع الأحوال».
التحدي الأكبر، هو أن نكون أقوى من عذاباتنا، وأن نتعايش مع أحزاننا، أو نتجاوزها؛ لننطلق في دروب الحياة مفعمين بالأمل.
حاول أن تفرح، فتش عن الفرح ولا تهرب منه، وافرح لفرح غيرك، وستفرح.
لنتذكر أن الله يمنحنا في كل يوم حياة جديدة، طلعة بهية للشمس، طاقة متجددة، نهاراً آخر، خيارات لا حصر لها في كل الاتجاهات، أملاً بتغييرٍ نحو الأفضل، حلماً نشتغل عليه، أناساً نبتسم لهم ويبتسمون لنا، مدناً جديدة لنكتشفها، روايات لنقرأها، موسيقى لنسمعها، أسئلة تبحث عن إجابات، هدفاً نسعى لتحقيقه، أحباءً نعيش من أجلهم كما نعيش لأنفسنا قبل أيّ شيء، ذكريات جميلة، وأطيافاً نورانية تحلّق من حولنا لمن غادرونا مبكرين.