وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - على بوّابة المبنى «4 شارع تشرشل - أيوس ذيمتيوس – نيقوسيا»، وقف ميشيل النمري معنا وقفة أخيرة. طالما حَيِيت لن أنسى، قَط، وقفته، لأنه رفع رأسه، ومَنحَني ابتسامة فاترة أخرى. أُحسّ، الآن، أنها كانت أعمق من ابتساماته البيروتية.
من رأى ميشيل غاضباً فليرفع يده. أنا ما رأيته إلّا ضاحكاً بفتور، أو حزيناً.. وفي الحالتين يكون جميلاً وأجمل.
في تلك الوقفة قلت له: «حاذر يا ميشيل.. أنت تلعب بدمك». أقلّ من شهر بعد ذلك، وأطلقوا الرصاص على رأسه الجميل وقلبه الجيّاش. وهكذا، حصل أنّ مطار أثينا قد يوزّعنا على المطارات.. أو مقابر الشهداء.
جاءنا ميشيل صحافيّاً «مطبوخاً» تماماً. لأسابيع انهمك في تعزيز بحثه في قراءة «الاقتصاد السياسي» للأردن. جداول إحصائية يختبرها على «كالكوليتر». أخذه بحثه تماماً.. حتى عن حلاقة ذقنه. لسببٍ سياسي «تكتيكي - تعبوي» يتعلق بتقلّبات العلاقة الأردنية - الفلسطينية أواسط السبعينيات.. أهملوا نشر بحثه المحرج!
ميشيل أهملنا، بدوره.. وبكلّ بساطة ذهب يشقّ لأجنحته الصحافيّة مجالات أرحب. دائماً كان رائداً يتقدم. سنوات قليلة، حتى زارني مع رفيقة حبّه ومهنته المصوّرة الإيطالية كارلا، وفي يديه ما يستحقّ الزهوّ حقّاً.
المحرّر الذي لا تحتمل ألمعيته ضرورات المرحلة «الإعلامية الثورية» صار رئيس تحرير مجلّة «الموقف العربي» الصادرة من قبرص؟ وأي مطبوعة قشيبة جداً هذه؟ تعاون مع جموح مخرجه الفنّي نبيل بقيلي، فأصدر «أفخم» مجلة عربية حتى حينه: مجلة سياسية جداً، ولكنها اقتصادية جداً، وترويحيّة جداً. هذه «الفورمولا» كانت برهانه على ضيق أفقنا السياسي.. والجمالي.. والمهني، أيضاً.
كان يسبقنا دائماً، فعندما لحقنا به إلى قبرص، كان قد ترك لنا الجزيرة كلها، وترك المجلة التي إنْ أعطته ملعباً فنياً، فقد حاولت أن تكبله سياسياً. وميشيل خُلق ثورياً.. وثورياً هادئاً جداً.
الانقلاب الثالث قاده ميشيل، أيضاً.. وضد ميشيل. فجاءة، زهد بمزاوجة السياسة الملتزمة بالصدقية المهنية، ومزاوجتهما معاً بالجمال. هكذا، عاد إلى «الجملة الوثائقية» السياسية.. رئيساً لتحرير «النشرة» الصادرة من أثينا بلونٍ واحد.. أخضر باهت، وعلى صفحاتها كل عذابات الإنسان العربي من انتهاكات حقوقه.
كسر ميشيل كثيراً من الزجاج العربي، كثيراً من المرايا المحدّبة والمقعّرة، كثيراً جداً من الأكاذيب المسكوت عنها بابتسامة قومية مجاملة.
لم يشهد حصارنا في بيروت. ذهب إلى قبرص ليمهّد لنا مطابعها لاستقبالنا بعد الخروج من الحصار. ضاق صدراً بجزيرة «ريفية» أكثر من اللازم، فذهب إلى أثينا ليستقبل بشكلٍ أفضل «أنّات» الإنسان العربي من المغرب إلى العراق، ويبثّها بصوتٍ صارخ و»محدود التداول».
«محدود التداول» تعني أن تتخاطفها الأيدي عَبر الحدود. كانت مطبوعته نصف الشهرية لسان حال مركزي - تقريباً - لمنظمات حقوق الإنسان العربية، وللأحزاب العربية المقموعة، ولمناضلي الأحزاب المقموعين خلف جدران السجون.
طالما سألته: هل تحبّ كارلا يا ميشيل، فالتفت إليها ضاحكاً، واقتبس من ضحكتها ضحكة أعرض وأعمق. قصّة زمالةٍ في إطار قصّة حبّ، في إطار رفقة نضال.. فلماذا وجع الحلم في إطار زواج؟
للحقّ كان جميلاً، حتى أنّه بِسِمَاتِه الإيطالية أجمل من، مارسيللو ماستروياني. وكارلا جميلة أيضاً، ربما لأنها لا تضع شيئاً على وجهها الجميل.
للحق، كان يسبقنا؛ لأننا عندما صعدنا من الالتزام إلى الليبرالية «ارتدّ» هو من ليبرالية مفرطة إلى التزامٍ صارم.. بالوثيقة المهرّبة عَبر السجون، وعَبر الحدود. مع ذلك، لم يخذل الجمال المتقشّف، لأن الثوري لا يخذل حلمه الجميل. وهكذا، وضع خلفية خضراء باهتة لحروف عذابٍ سوداء.
تذكّرت ميشيل لأنني لا أنساه قَط، ثم تذكّرته لأن العدد الأول - السنة الثالثة عشرة، الصادر في كانون الثاني 1998، من مجلته «النشرة» حمل صورة حنّا مقبل، الأمين العام السابق للاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، ثم الأمين العام لاتحاد الصحافيين العرب.. حتى اغتياله في نيقوسيا.
كتبت عن حنّا مقبل.. فبعد موته اغتيالاً زارنا ميشيل. وقف أمام مكاتبنا في شمس شتائيّة فاترة. حذّرناه. التفتَ إلينا وودّعنا بابتسامةٍ فاترة. لماذا لم أرَه ولو مرّة واحدة غاضباً؟ أقالت له «كارلا» أنها لا تحبّه غاضباً؟!

حسن البطل
12-6-1998