وكالات - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - مرة بعد أخرى يبرز السؤال حول مستقبل القدس في ظل حملات التهويد المستمرة، ومحاولات الاحتلال وقطعان مستوطنيه فرض واقع جديد في المدينة المقدسة. السؤال الذي يشكل جوهر الصراع على هذه الأرض، حيث الهدف والغاية من وراء المشروع الكولونيالي كان دائماً إزاحة الشعب الفلسطيني من البلاد وطرده ونفيه خارجها. وربما لولا صمود هذا الشعب ومقدرته على تحمل ما تعرض له رغم القتل والمذابح، لكان تحقق ما كانت تصبو إليه الحركة الصهيونية حين قررت سرقة البلاد من أصحابها. ودائماً شكلت القدس بؤرة هذا المشروع، ولعل النكبة التي قسمت القدس بين شرقية وغربية أجلت الإجابة عن هذا السؤال، فيما أعادت النكسة طرحه مرة أخرى دون إجابة محددة. وطوال نصف القرن الماضي سعى الاحتلال إلى تغيير الواقع في المدينة من خلال عمليات التهويد والمصادرة وغرس مستوطنيه في قلب المدينة، وأخذت هذه الجهود أشكالاً مختلفة، ولم تفلح في نهاية المطاف بنفي الفلسطيني خارج المكان؛ إذ رغم كل شيء ظلت المدينة ذات طابع عربي بشقيه الإسلامي والمسيحي. كما أن المشاريع الاستيطانية الأخرى خارج المدينة سعت في الأساس إلى عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني، من خلال إحاطتها بدائرة استيطانية تمنع الوصول إليها للفلسطينيين من غير سكانها إلا عبر بوابات إسرائيلية يحرسها الجيش بآخر ما وصلت إليه النانو من إبداعات. وبشكل عام، فإن الصراع على القدس ظل مستمراً.
ومن ضمن عجز اتفاقيات أوسلو الكثير، فإن تعليق موضوع القدس كان نقطة الفشل الأبرز؛ إذ إنها لم تحلها لكنها في نفس الوقت لم تمنع الاحتلال من مواصلة جهوده في سرقتها. لقد شكل أوسلو نكسة أخرى للقدس، التي تركت فريسة لمشاريع التهويد والاستيطان دون أن يكون هناك أي ربط أو شرط على الاحتلال بمنع ذلك. وربما أن الصورة الأشمل تشير بقوة إلى عجز أوسلو في وضع حد ليس للاحتلال بل لتعميقه. وربما أيضاً أن الصورة الحقيقية هي أن أوسلو ساعدت في توسع وتعميق الاحتلال من جهة أنها لم تضع حداً له ولم تضع رقابة على توسعاته، بل بالعكس فإن الذي وضع حداً لنشاطاته وقيوداً على حركته هي السلطة الفلسطينية الوليدة. أوسلو أوقفت الحالة الفلسطينية ولم تسمح بتطور السلطة، فيما أعطت الاحتلال الفرصة لينمو ويتعمق. يبدو هذا الكلام مفيداً حين النظر إلى تطور الصراع في ربع القرن الماضي؛ إذ إن السلطة نجحت بجهودها أن تطور من إمكانياتها، وتتحول من مجلس بلدي يدير السلطة إلى برلمان مثل برلمانات الدول، وتحول موقع رئيس المجلس إلى رئيس السلطة ورئيس الدولة، وهذه جهود تحسب للقيادة الفلسطينية في أنها أيضاً لم تسلم بواقع أوسلو، وكانت تنظر إلى سلطتها بوصفها دولة ودولة بحاجة للتعمق والتوسع. كانت المهمة شاقة وصعبة لأنها تتم تحت الاحتلال لكن ثبت أنها ليست مستحيلة.
في الطرف الآخر، واصل الاحتلال عملية سرقة الأراضي وبناء المستوطنات، وفرض أمر واقع جديد في الضفة الغربية، من خلال شبكة الطرق وتصنيف المناطق وتجميع المستوطنات في حيز أوسع. وفي القدس أيضاً لم تتوقف عملية التهويد لحظة واحدة؛ إذ بات بناء بناية في القدس يحتاج لمعجزة. كان إفراغ القدس من سكانها العرب من خلال تسهيل أي بناء وتوسع خارج حدود المدينة. وبعبارة أخرى تركت القدس فريسة لعملية مركبة من الاستيطان والتهويد والطرد، نتجت عنها زيادة تعداد المستوطنين وتطور أجندة التهويد حتى باتت وبوقاحة تطال أكثر الأماكن قداسة عند الفلسطينيين المسلمين: المسجد الأقصى المبارك وفي شهر الصيام.
كان يمكن للتاريخ أن يأخذ مساراً آخر لو أن القيادة الفلسطينية حين انتهت الفترة الانتقالية في أيار 1994 أخذت موقفاً آخر. حاول الرئيس عرفات أن يأخذ هذا الموقف مثل أن يتم الإعلان عن انتهاء الفترة الانتقالية، بل أيضاً تحلل السلطة من التزاماتها تجاه عملية السلام ما لم تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية الموعودة، وتقوم بتنفيذ التزاماتها تجاه ذلك وفق اتفاقيات جديدة. مورست الضغوط وتم تقديم الوعود، ولعل الإعلان الأوروبي المعروف بإعلان برلين كان الأبرز في ذلك، رغم أنه لم يعنِ شيئاً بالمطلق أكثر من وعد أوروبي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حالة تم التوصل لاتفاق بشأنها، وبذلك ربط هذا الاعتراف باعتراف إسرائيل المسبق.
طبعاً المؤلم أكثر فيما يجري في القدس هو الموقف العربي. يمكن أن ندرك نجاح التطبيع في موقف الدول المطبعة. صحيح أنها قبل ذلك لم تحرك الجيوش لتحرير الأقصى وكانت تكتفي بالكلام، وقبل ذلك بالمساعدة المالية، إلا أن الكلام نفسه بات صعباً بالنسبة لها. جرت مياه كثيرة تحت الجسر، لكن أن تتبدل الدماء فهذا أمر أصعب بكثير من تبدل الحال. لم يصدر موقف مناسب من تلك الدول ولم تكن حتى «صليب أحمر»، بل وقفت موقفاً لا يمكن أن يرضاه ضميرها حتى. النتيجة أننا بعد قرابة ثلاثة عقود من بناء السلطة بحاجة للتفكير في مستقبل الصراع، وكيف يمكن لنا أن نواصل معركة الوجود، آخذين بعين الاعتبار التبدل والتحول في الإقليم وغياب الحاضنة العربية المناسبة. طبعاً مع وجود الانقسام واستمراره وتغذيته من قبل الاحتلال، وعجز البعض عن رؤية مخاطره وتمسكه به، فإن هذه المهمة تبدو عسيرة، وربما إنهاء هذا الانقسام وتجاوز آلامه وعثراته سيظل الهدف الأول الذي لا بد من تحقيقه إذا أردنا أن نقف في مواجهة المستقبل دون أن تكسرنا رياحه.