عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - قبل أيام، قُتلت سيدة في بلدة عرابة بالداخل على يد طليقها، الذي ترجل من سيارته وطعنها في الشارع العام، وعلى مرأى من الجميع غير آبه بتبعات جريمته!
وفي السنوات الأخيرة تصاعدت حدة العنف والجريمة المنظمة في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، لدرجة مقلقة وخطيرة، حتى أن تظاهرات جماهيرية عديدة على رأسها نواب كنيست عرب وقادة محليون، خرجوا للتنديد بموجة العنف، ولإدانة صمت السلطات الإسرائيلية وتقاعسها المقصود، وعدم بذلها جهوداً جدية لتطويق الظاهرة، أو معاقبة المجرمين.
يصعب فهم ظاهرة العنف والجريمة، وتصاعدها، بمعزل عن سياقها التاريخي والسياسي العام، أي بمعزل عن منهجية السلطات الإسرائيلية في تعاملها مع المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، ودون التطرق للسياقات السوسيولوجية لتطور المجتمع الفلسطيني خلال السبعة عقود المنصرمة.
يجابه الفلسطينيون تمييزاً عنصريّاً في غالبية المجالات الحياتية بإسرائيل: الحق في ملكية الأرض، رخص البناء، التعليم، العمل، تولي مناصب عليا، البيئة، البنية التحتية، الصحة، التمثيل السياسي، إمكانية الوصول إلى المعلومات، المخصّصات الحكوميّة والميزانيات المختلفة.
أي أنّ المجتمع الفلسطيني في البلاد يعيش بمستوى معيشة منخفض؛ فنسبة البطالة ونسبة الفقر مرتفعتان إلى درجة بالغة، وتفتقر الكثير من القرى إلى الخدمات الصّحيّة، والتّربويّة، والبنية التّحتيّة الأساسيّة، وهناك عشرات القرى في النقب غير معترف بها، وقد وصلت ذروة التمييز العنصري من خلال «قانون القومية اليهودي»، الذي أقره الكنيست عام 2018، وهو قانون يكرس ويشرعن كل الإجراءات التمييزية ضد العرب.
حسب مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإن نسبة البطالة بين اليهود وحدهم في حدود 3.7%، بينما نسبة البطالة بين العرب تتجاوز 10%.
نسبة الفقر لدى العائلات العربية 18% وتزيد على المعدل القطري بأكثر من ضعفين ونصف، بسبب الرواتب المتدنية التي يتلقونها.
على صعيد الأمن الداخلي، تمارس الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تمييزاً ضد الفلسطينيين، فهي مثلاً تتغاضى عن تجار السلاح، ومروجي المخدرات في التجمعات العربية، ولا تبذل الجهد الكافي في ملاحقة جرائم القتل، ولا تلاحق عصابات الجريمة والسلاح المنفلت، خاصة إذا تأكدت أنها تنشط فقط ضد المواطنين العرب (هذا لا يعفي المجتمع العربي من مسؤولياته).
وبلغة الأرقام: منذ بداية العام الحالي قُتل 25 مواطناً في جرائم قتل مختلفة بالمجتمع العربي، وخلال العام 2019 قُتل 93 مواطناً، وفي العام 2018 قُتل 76 مواطناً منهم 14 امرأة، وفي العام 2017 قُتل 72 مواطناً عربياً بينهم 10 نساء. وخلال العام 2016 قُتلت 30 امرأة عربية. وفي تقرير خاص لمراقب الدولة الإسرائيلي، قال: «إن أجهزة الأمن، فشلت في منع انتشار واستخدام السلاح غير المرخص في المجتمع العربي، الأمر الذي كان له الأثر الهائل في ارتفاع نسبة الجريمة». ووفقاً للمراقب، فإن 1389 جريمة قتل وقعت بين العام 2000 وحتى العام 2019. ضحاياها ومنفذوها فقط عرب، وحسب إحصاءات رسمية توجد نحو 320 ألف قطعة سلاح لدى الفلسطينيين.
ويزيد معدل القتل في الوسط العربي من سبعة إلى ثمانية أضعاف على الوسط اليهودي، والسبب ببساطة أن المؤسسة الرسمية في إسرائيل لا تحرك ساكناً رغم تصاعد الجريمة، ورغم معرفتها بالنقاط السوداء ومراكز السلاح المنفلت، طالما تضمن أن السلاح غير موجه لليهود.
وحتى نهاية السبعينيات، كان العنف في الوسط العربي يمارَس على نطاق ضيق، وبشكل فردي، وظل المجتمع ينبذ فئة المجرمين، وينظر إليهم وكأنهم في الساحة الخلفية. وكان العنف مقتصراً على جرائم القتل بين تجار المخدرات، وخلال الثمانينيات والتسعينيات بدأت تظهر في منطقة المثلث مجموعات منظمة أشبه بالعصابات، وأخذت تنتشر وتنتقل إلى أماكن أخرى، وفي العقد الأول من القرن الحالي أخذت تلك المجموعات تنتظم، وتتقوى، ويزداد نفوذها، حتى صارت تستقوي على المجتمع، خاصة بعد أن بدأت تتحالف وتتعاون مع مثيلاتها داخل الوسط اليهودي. تفاقمت المشكلة أكثر في العقد الثاني، وأصبحت هذه العصابات تمتلك نوافذ اقتصادية مؤثرة، وتغلغلت في المؤسسات السياسية المحلية، وبدأ الناس العاديون يلجؤون إلى العصابات لأهداف مختلفة، مثل الثأر، أو انتزاع حقوق معينة، أو تصفية خلافات شخصية، أي بدأت تنتشر ظاهرة أخذ القانون باليد. حتى طال العنف معظم مرافق المجتمع، وصار يؤثر في الاقتصاد، والأعمال، والحياة الاجتماعية، ويهدد السلم الأهلي، ويؤثر سلباً في الشباب، والتكافل الأسري، ومناحي التفكير، ولم يعد مقتصراً على أعضاء العصابات، بل صارت الخلافات العائلية تُحل بالقوة، وصرنا نسمع بشكل يومي أخباراً عن حرق سيارات، أو اعتداء جيران على بعضهم، إطلاق نار، بما في ذلك في الأعراس. (نسبة مخالفات إطلاق النار لدى المواطنين العرب أعلى بـ 17 ضعفاً من نسبة المخالفات نفسها لدى اليهود).
وحسب التقارير بين الأعوام 2014-2017، فإن 70% من جرائم القتل التي ضحاياها عرب لم يتم حلّها، ولم تقدم فيها لوائح اتهام، أو ما زالت قيد التحقيق حتى الآن.
وهنالك أسباب موضوعية وراء انتشار العنف، مثل وجود عشوائيات سكنية ومناطق فقيرة ومهمشة، وغياب العدالة الاجتماعية، وتخلف النظم التعليمية في الدولة، وانعدام الأمل بين الناس، خاصة الشبان والمتعطلين عن العمل، وغير ذلك من أسباب اجتماعية واقتصادية تساهم في انتشار الجريمة. ومثل بقية المجتمعات، برزت تغييرات كثيرة محلية وعالمية، لها علاقة بتطور المجتمعات وتغير أنماطها السلوكية بشكل عام.
هذه العوامل، وغيرها أدت إلى إضعاف الأسرة، والعلاقات الاجتماعية، خاصة في ظل التهميش من قبل الدولة، وانغلاق الأفق السياسي لدى الفلسطينيين، وانعدام الأمل بأي حل سياسي عادل وشامل، ودون امتلاكهم رؤية، وافتقارهم لوجود تنظيم سياسي تاريخي يقودهم ويمثلهم، فيما الدولة غير معنية بتقديم الحلول.
كما أن جهاز المخابرات استغل المأزق، فأخذ ينشط في عمليات تجنيد الشبان العرب. ما يشير إلى أن السلطات تسعى بطرق شتى إلى تقويض المجتمع الفلسطيني، وإغراقه بالمشاكل.
من جهته، يقول مدير المركز العربي للمجتمع الآمن، المحامي رضا جابر: إنّ الرهان على الشرطة الإسرائيلية لحل معضلة العنف والجريمة رهان خاسر، محذراً من مقايضة الحاضر بالمستقبل في حال تحقيق رغبات الدولة في فرض توسّعها الأمني بين العرب، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى الضغط على الدولة عبر خطاب قوي، متحرر من الدونية، يحدد مطالبه بوضوح.

نقلا عن صحيفة الايام