نابلس - الكاتب ابراهيم نوار - النجاح الإخباري - الصيغة الحالية للتطبيع تضع الشعب الفلسطيني تحت الحصار، بلا وطن ولا حلفاء حقيقيين في العالم العربي، الذي فقد هويته؛ فبعد 72 عاما من الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، تنفصل الإرادة العربية الرسمية عن خيار «تحرير فلسطين» بكل أشكاله ومسمياته، التي عرفناها منذ الحرب العالمية الأولى، أي منذ أكثر من مئة عام. الصيغة الحالية للتطبيع، تجسد للمرة الأولى حقيقة جديدة في السياسة الرسمية العربية هي «فك الارتباط مع القضية الفلسطينية» وهي حقيقة يحتفل بها بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، باعتبارها إنجازا تاريخيا، بعد نحو عشرة عقود من الصراع الدامي منذ وعد بلفور. «فك الارتباط» يتجاوز حدود الشعارات السياسية إلى عمق العلاقات العربية – الفلسطينية، ويصل إلى حد إقامة احتفالات شماتة وعداء ضد الفلسطينيين، ترافق حفلات الزفاف (العربي- الإسرائيلي) التي بدأت في بعض العواصم العربية وواشنطن والقدس، ابتهاجا بالصيغة الجديدة للتطبيع.
أول ما أخشاه أن يعتقد القارئ أن هذه الكلمات تدخل من باب الوعظ للفلسطينيين، فلا يوجد أحد في العالم العربي، يملك صلاحية تقديم العظة للفلسطينيين شعبا وقيادة، لكن حقيقة «فك الارتباط» مع الشعب الفلسطيني، توجب أن تعلو أصوات التضامن الحقيقي معه أينما كان، سواء في المنافي الممتدة حول العالم، أو داخل خريطة تفتيت هذا الشعب بين الضفة الغربية وقطاع غزة وفي إسرائيل.
هذا التضامن الحقيقي مع الشعب الفلسطيني، ليس مجرد تعبير عن انحياز سياسي لشعب تعرض لأسوأ ظلم في تاريخ العالم الحديث، بحرمانه من حقه الأصيل في تقرير مصيره، وهو الحق الذي اتفقت عليه شعوب العالم، لكنه أيضا تعبير عن أواصر العلاقات الوجدانية، التي نشأت عليها أجيال في العالمين العربي والإسلامي وخارجهما. وأظن ان التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي يسعى كثيرون إلى اغتيال هويته، يجب أن يتجاوز حدود المألوف من التضامن بالكلمات وبالشعارات البليغة لغويا والطنانة سياسيا. الفلسطينيون وهم تحت الحصار الآن يستحقون ما يمكن تسميته «التضامن المخلص» وهو تضامن يحاول، من ضفاف مختلفة ومواقع متعددة، تقديم رؤية، قد تصيب أو تخيب، لكنها يجب أن تصدر عن حسن نية، بعيدا عن الابتذال، أو التعالي، أو مجرد افتعال الضجيج. وفي هذا السياق أظن أنه أصبح ضروريأ أن يبدأ التضامن من استطلاع الواقع، والتعرف على الحقائق، ليس للتسليم بالأمر الواقع، ولكن لاستكشاف طريق عملي يصل المسافة المفقودة بين نقطتين، هما الواقع والحلم. وأظن أن مثل هذا النهج يدخل في صميم عملية صنع السياسة بطريقة جادة، تنأى عن نهج تكرار الفشل. إن الشعارات التي عجزت عن التحول إلى حقائق خلال عقود مضت، لن تتحول فجأة إلى نجاح.

ليس من حق أحد أن يحكم على مصداقية القيادة الفلسطينية غير الفلسطينيين أنفسهم. هذه حقيقة، وإن كانت لا تقبل الجدل، فإنها تصطدم بانقسام القيادة الفلسطينية بين ثلاثة مراكز على الأقل، هي القيادة في الضفة الغربية، ثم نظيرها في قطاع غزة، وأخيرا القيادة داخل الخط الأخضر، التي تعبر عن الفلسطينيين الصامدين، الذين رفضوا التهجير وقاوموه وحافظوا على هويتهم، رغم كل محاولات التشويه.
ولأسباب كثيرة، من بينها تعدد واختلاف مراكز القيادة، تتعدد وتختلف أيضا الشعارات السياسية، واستراتيجيات العمل المرتبطة بها، وكذلك تختلف دوائر الحلفاء والخصوم. ومع أننا قد لا نرى غضاضة منطقية في التعددية والاختلاف، إلا أن الأمر يستوجب الوقوف لإعادة التقييم، خصوصا بعد أن تغيرت قواعد اللعبة على ضوء التطورات الأخيرة.
وترتبط مصداقية القيادة الفلسطينية بعدد من المعايير العلمية، بعيدا عن الخطابة والبلاغة، من أهمها معيار الاتساق وعدم التناقض؛ فلا يجوز أن نتخذ مواقف مختلفة، ردا على حدث واحد، ومعيار الترابط بين القول والفعل؛ فلا يجوز أن نقول ما لا نفعل أو ما لا نقدر على فعله. ومنها معيار الوحدة في مواجهة التشرذم، ومعيار بناء التحالفات ضد العزلة. كما تحتاج القيادة في الوقت الراهن إلى وقفة شجاعة، لإعادة تقييم الموقف السياسي بأكمله، وعدم الاستكانة، أو الاكتفاء بترديد مواقف سابقة مُنْبَتّة الصلة بالواقع. قامت الإرادة الفلسطينية المستقلة على خيار المقاومة، وهو الخيار الذي فجّره ياسر عرفات قبل نحو 60 عاما، متحديا الإرادة الجماعية للحكومات العربية قبل حرب يونيو 1967، عندما كانت القضية تقبع في دائرة منظمة التحرير، التي كان يرأسها أحمد الشقيري. لكن بطولة عرفات ومعه (فتح) سرعان ما تعرضت لحصار الحكومات، وصراعات الانظمة، ووقعت أيضا ضحية للتطرف الذي قادته منظمات قومية عربية زايدت على (فتح) وعلى الشعب الفلسطيني، لأغراض ترتبط بتصفية حسابات، بعيدا عن القضية الفلسطينية نفسها. وهكذا فإن خيار المقاومة دفع ثمنا فادحا مرات ومرات، في الأردن ولبنان وسوريا، حتى وصل الأمر لإرسال القيادة الفلسطينية إلى منفى في تونس. ومنذ ذلك الوقت بدأت استراتيجية الالتفاف على (خيار المقاومة) بواسطة (خيار المفاوضات). ومع أن ياسر عرفات حاول جاهدا إقامة توازن دقيق بين استقلال الإرادة الفلسطينية، والضغوط والمناورات والصراعات العربية، فإن القضية الفلسطينية تدحرجت عمليا إلى منحدر المساومات العربية، وعادت إلى المربع الأول، الذي كانت عليه قبل ظهور (فتح) أي تحولت إلى دائرة من دوائر جامعة الدول العربية. بكل ما فيها من عفن ونفاق وفشل.
منذ أكثر من عام طرح رئيس الوزراء الفلسطيني الحالي محمد أشتيه رؤية لتحقيق ما سماه «الانفصال الاقتصادي» عن إسرائيل. وبناء على طرح أشتيه فإن الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية، بدأت تنفيذ إجراءات لمنع استيراد بعض السلع الإسرائيلية، التي يمكن استبدالها بالإنتاج المحلي، او الأردني. وردا على ذلك أعلنت الحكومة الإسرائيلية قيودا على حركة البضائع في الضفة، وعبر الحدود مع كل من الأردن وإسرائيل. وأصدر نفتالي بينيت (وقت أن كان وزيرا للدفاع) أوامر عسكرية لتنفيذ ذلك، ما أدى إلى خلق صعوبات اقتصادية شديدة في الضفة الغربية.
في الوقت نفسه كانت السلطة الوطنية الفلسطينية تعاني من أزمة مالية حادة، وهي أزمة ما تزال ممتدة حتى الآن؛ فعجزت عن مواصلة سياسة «الانفصال الاقتصادي» وتبخرت هذه السياسة وكأنها لم تكن، لأن السلطة أدركت أن حقيقة الارتباط الاقتصادي بين الضفة وإسرائيل أكبر من مجرد الشعارات السياسية. كما أدركت كذلك أن الدعم الاقتصادي العربي مشروط بمواقف الدول الداعمة وعلى رأسها السعودية. وربما يتبقى من خيار» الانفصال الاقتصادي» مجرد ذكراه في أرشيف الحكومة الفلسطينية، وربما يسقط تماما من ذاكرة التاريخ، لكنه سيظل مثلا لواحد من الخيارات التي رفعتها السلطة، ثم فشلت في تحقيقها لأسباب خارج إرادتها.
في السياق التاريخي ظلت المفاوضات رافدا من روافد العمل الوطني الفلسطيني. ومن الخطأ إقامة علاقة تضاد ثنائي بين المفاوضات والمقاومة، ولسنا في حاجة إلى عرض أمثلة تاريخية لإثبات ذلك. وقد وصل خيار المفاوضات إلى قطاره الأخير في أوسلو، واستمر عدة خطوات ثم تعطل لأسباب إسرائيلية أساسا، تتعلق بممارسة العنف، والاستيطان، ومصادرة أراضي الفلسطينيين، ومواصلة سياسة بناء الحقائق على الأرض بهدف نسف إمكان تحقيق حل الدولتين، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى وقف المفاوضات، وإعلان السلطة من جانب واحد وقف «التعاون» مع إسرائيل، بما في ذلك التعاون الأمني. وعلى الرغم من أن تعطيل عملية (أوسلو) جاء نتيجة إجراءات إسرائيلية، فإن السلطة تتعرض لضغوط دولية من حلفاء حقيقيين، منهم الاتحاد الأوروبي وروسيا، لاستئناف المفاوضات.
استئناف المفاوضات ربما يمثل الآن الخيار العملي الأقرب إلى التحقيق في الأجل القصير، ترافقا مع حفلات التطبيع وصفقة ترامب. لكن هذا ينطوي الآن على تباين حاد بين خطتين، واحدة هي عملية أوسلو السياسية، التي يدعمها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وأخرى هي صفقة ترامب للتسوية، التي تدعمها أطراف عربية. كذلك يواجه خيار استئناف المفاوضات تحدي وجود المعسكر الإقليمي المعارض لها، ويصل إلى حد وصفها بالخيانة، الذي يضم أطرافا عربية وغير عربية متباينة من إيران إلى تركيا وحلفائهما.
الخيار الأخير طويل الأمد بالنسبة للشعب الفلسطيني وقيادته، بالمعني المطلق للقيادة الذي لا يقتصر على قيادة الوقت الحالي، هو خيار الدفاع عن الهوية الفلسطينية، وعدم السماح باغتيالها بأي صورة من الصور، أو تحت أي مبرر من المبررات. ويحتاج المضي قدما في تحقيق هذا الخيار إلى توفر عدد من المقومات الضرورية، منها ضرورة لم الشمل الفلسطيني، وخلق رابطة وجدانية وسياسية تتجاوز حدود الانقسام الحالي للفلسطينيين بين الوجود داخل إسرائيل، والوجود في الضفة الغربية وفي غزة وفي المنافي في الدول العربية وحول العالم. كما يحتاج تحقيق خيار الدفاع عن الهوية إلى ضرورة البعد عن المحاور الإقليمية، مع عدم استبعاد التعاون على المستويات الشعبية، كذلك يحتاج هذا الخيار إلى دبلوماسية فلسطينية ذكية لبناء تحالفات سياسية عالمية، تتفق مع هدف إقامة سلام عادل، على أسس التعايش والتعاون والأمن المتبادل بين شعوب المنطقة.
خيار «السلام العادل» هو ما يكرهه ترامب، ونتنياهو، وهذا يتطلب ضرورة التواصل مع معسكر (السلام) داخل إسرائيل، رغم ضعفه الحالي، وضرورة إصلاح الخطاب السياسي الفلسطيني على أساس القبول بالتعايش، وفقا لصيغة عملية شجاعة ومتسقة منطقيا وسياسيا. في كل الأحوال فإن الشعب الفلسطيني هو أحوج ما يكون الآن إلى تطوير استراتيجية لمقاومة الحصار والدفاع عن الهوية وتحقيق السلام.
 

نقلا عن القدس العربي..