د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - لم يشهد الشارع الفلسطيني ردات فعل عنيفة لربما كانت تشكل هاجساً ومصدراً للقلق والتحسب والاستعداد لمواجهتها من قبل الجهات الأمنية الإسرائيلية للإعلان عن خطة الإملاءات الأمريكية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية التي أطلقها فرعون هذا العصر من واشنطن تحت مسمى "صفقة القرن" بحضور عرابيها من الصهاينة. فإبّان الإعلان عمت عدة مدن فلسطينية تجمعات احتجاجية دعت لها تنظيمات وفصائل العمل الوطني الفلسطيني، تبعها في اليوم التالي بعض المسيرات الغاضبة والرافضة لها، بينما انشغلت العامة في شؤونها الحياتية اليومية غير مبالية بالحدث، وانتظمت الدراسة في المدارس والكليات والمعاهد والجامعات، بل وتواصلت على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت باروميتراً هاماً لما يشغل الرأي العام في فلسطين، قبل وفي أثناء وبعد مسرحية الإعلان عن تلك الصفقة، التعازي بالذين توفاهم الله من أبناء شعبنا، وأماني الشفاء للمرضى، والتهاني بأعياد الميلاد الخاصة والشكر المقابل عليها من أصحابها. وفي رأيي شكلت هذه الممارسات رداً مبطناً، ولكنه واضح المعاني، من قبل الشعب الفلسطيني على إملاءات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تضمنتها صفقته، وهكذا نوع من الردود البليغة والممعنه في الإستهزاء يُجسده مثلنا الشعبي القائل "قلة الرد رد".

ردة فعل شعبنا هذه عكست قناعة مواطننا البسيط، قبل نظيره المثقف أو السياسي، بأن توقيت الاعلان عن المبادرة المزعومة جاء ليخدم زعيميين سياسيين يائسيين، يتكأن على بعضهما البعض في مواجهة ما يتعرضان له من ضغوطات سياسية داخلية تهدد مستقبلهما السياسي. ففيه أولاً محاولة انقاذ ودعم لرئيس وزراء إسرائيلي مهدد بالمحاكمة ورفع الحصانة عنه، من خلال العمل على تحسين فرص نجاحه وحزبه في انتخابات الكنيست المقبلة، بغية تجديد ولايته لفترة ولاية أخرى تكون له بمثابة طوق نجاة مما يوجه له من اتهامات بالفساد والرشوة. وفي توقيت الاعلان أيضاً رسالة هادفة لمؤازرة رئيس أمريكي يتعرض لإجراءات خلع من قبل المؤسسات التشريعية في بلاده، عدا عن كونه اجراءً دعائياً مفضوحاً في سياق الحملة الانتخابية المتواصلة لدونالد ترامب منذ إعلانه غير الشرعي عن القدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال ونقله سفارة بلاده لها، وذلك ما أوضحه المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، في قوله بأن عدم انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية وفوز الديمقراطيين من شأنه أن يعرض "صفقة القرن" للخطر.

ما يؤكد ما سبق ذكره، أنه ليس فيما رشح عن بنود صفقة القرن المزعومة، وما قد يرشح من بنود أخرى لها، أي مفاجأة سارة أو أي جديد مفيد للفلسطينيين، فتلك الصفقة لا تتعدى كونها خطة تسوية أحادية الجانب للقضية الفلسطينية صناعها اليمين الإسرائيلي المتطرف ولكن بنكهة وموافقة أمريكية، وفيها إصراراً واضحاً على تجريد الفلسطينيين من حقوقهم التي كفلتها لهم كافة قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالصراع العربي الإسرائيلي والقانون الدولي الانساني، وتزيد إمعاناً في معاناة الشعب الفلسطيني، وتشجع مزيداً من الانتهاكات الإسرائيلية لأراضيه المحتلة. وهي لن تُفضي إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ليست فقط لأنها مرفوضة فلسطينياً وغير مقبولة دولياً، ولكن لكونها لا تحظى بإجماع أمريكي أو حتى إسرائيلي، فالأمريكيون أنفسهم منقسمون حيالها حيث يُشكك الديمقراطيون بإمكانية نجاحها، وفي الجانب الإسرائيلي سارع عدد من المحللين السياسيين لديهم بإنتقادها في الفضائيات الإخبارية فور الإعلان عنها، معتبرين أنها لا تحقق السلام والأمن المنشوديين لإسرائيل ومواطنيها في ظل الرفض الفلسطيني الرسمي والشعبي لها.

ويمكن القول أن القياديين المعنيين غلبّا مصالحهما الشخصية والانتخابية على مصالح شعبيهما من خلال ما أضفياه على خطابيهما من مسحة دينية وتاريخية متحيزة حاولا بوساطتها إنعاش مولودهما الميت أصلاً، غير أبهيين بما ستؤول إليه هذه الإملاءات من عنف وحالة عدم استقرار في المنطقة، وإشعال حرب دينية قد يتخطى لهيب نيرانها شعوب المنطقة ليطال شعوب دول أخرى، حيث يصدق في ذلك قوله تبارك وتعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله"، فعلى إحدى هضاب مدينة القدس يقبع المسجد الأقصى المبارك الذي يعني لعموم المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرميين الشريفيين، وللمدينة ذاتها روايتها الخاصة كما ترويها حجارتها ومبانيها التاريخية التي تؤكد هويتها العربية الفلسطينية. والفلسطينيون عازمون على عدم التنازل عنها مهما كلفهم ذلك من أثمان وتكالبت عليهم نوائب الدهر والأمم، وقد لخص الرئيس الفلسطيني محمود عباس ذلك في قوله "إذا كانت القدس ستذهب (هل) سنقبل بدولة بدون القدس؟ مستحيل أي طفل فلسطيني أو عربي أو مسلم أو مسيحي أن يقبل بهذا". ونُتبع بالقول أنه إذا ما كانت صفقة "القرن" هي وعد ترامب للإسرائيليين، فإن فلسطين هي وعد الله للفلسطينيين، ففيها مهد الفلسطيني المسيحي الأول سيدنا عيسى عليه السلام، وفي قدسها كنيسة قيامه وموطن إسراء ومعراج نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهي أرض المحشر والمنشر الموعودة، فأنّى لنا بسلامٍ دائم وعيشٍ مشتركٍ آمن على هذه الأرض المباركة دون احترام تضحيات وآهات أبناء شعبها، وتلبية تطلعاتهم المشروعة بالحرية والاستقلال واسترداد حقوقهم السليبة؟

ولرُب ضارة نافعة، حيث وحد الإعلان عن الخطة الصهيو-أمريكية الهادفة لتصفية قضيتنا كافة أطياف العمل السياسي والفصائلي والوطني والفعاليات الشعبية والجماهيرية في فلسطين لاتخاذ موقف موحد في رفض الصفقة والتصدي لها واستنهاض وتسيير القاعدة لهذا الغرض، وما رأيناه في يوم الجمعة الذي تلا الإعلان عن "صفقة الإملاءات" من مسيرات حاشدة رافضة لها في مختلف مناطق الضفة الغربية وفي قطاع غزة وأراضي ألـ 48، إلا بداية لنفس طويل الأمد يهدف إلى إفشال الصفقة والتصدي لتطبيقها. وعلى صعيدٍ متصل، على أصحاب الصفقة التنبه إلى المغزى الهام للمسيرات الشعبية الغاضبة التي جابت صنعاء وعمان وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية رفضاً للصفقة ونصرةً لعروبة القدس، الأمر الذي يُؤكد على أن القضية الفلسطينية ما زالت تعيش في وجدان الشعوب العربية وتشكل قضيتها الأولى والمحورية، برغم ما أُشغلت به من قضايا خاصة.

وختاماً، إن جماهير شعبنا وإذ ترى فى الرفض الرسمي الدولي وشعوب العالم الحر "لصفقة ترامب" المتحيزة أنتصاراً لقضيتها ومطالبها العادلة في التحرر والاستقلال، فإن إيماننا الراسخ كفلسطينيين بحقوقنا المشروعة التي كفلتها لنا كافة الأعراف والمواثيق الدولية يجعلنا نعول على أنفسنا أولاً وأخيراً في انتزاع تلك الحقوق المسلوبة، وبناء دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس شاء من شاء وأبى من أبى، مؤمنين بأن كل ما يمكن لقوة الأمر الواقع فعله وخلقه من معطيات وأحداث على أرضنا مصيره حتماً إلى زوال طال الزمن أو قصر، والغزاة راحلون عن أرضنا وأما نحن فباقون عليها لأننا المتجذرون فيها، وردنا الفوري والمباشر على المبادرة الظالمة يتطلب منا العمل الجاد والسريع على استعادة الوحدة الوطنية بين جناحي الوطن، وفي ذلك توجيه الصفعة الأقوى على وجوه عرابيّ الصفقة والمصفقين والمروجين لها من بني جلدتنا.