عبير بشير - النجاح الإخباري - في خضم معركة إعادة تعريف جديد للدولة والكيان، وفي محاولة التصدي لكتابة تاريخ جديد للجمهورية اللبنانية على قياس المنتصرين، قامت الانتفاضة اللبنانية. وأعلن المنتفضون القطيعة مع نظام المحاصصة الطائفية ما بعد الحرب الأهلية، الذي قام على قاعدة تحالف برجوازية الحرب الأهلية مع سلطة المال والسلطة، ثنائية أنتجت متلازمة الفساد والطائفية التي تدافع اليوم عن مصالحها بشراسة بوجه أكبر انتفاضة شعبية يشهدها تاريخ لبنان الحديث.
صمدت الانتفاضة اللبنانية ضد السلطة ورموز الفساد، ودخلت أسبوعها الثاني، ولم تنفع محاولات إخمادها أو تطويقها، أو القبض عليها، بدءاً بمحاولات فتح الطريق بالقوة التي اضطر معها الجيش إلى التراجع أمام الجموع في مختلف المناطق. الأكثرية الساحقة من المتظاهرين ترفع شعارات ضد السلطة كلها، لكنها تختلف بين من يريد إسقاط النظام وبين المطالبين بإسقاط الحكومة كمرحلة أولى تفتح الطريق لإصلاحات جدية في المشهد العام في البلد، من بينها إقرار قانون انتخابي عادل وإجراء انتخابات نيابية جديدة. صمود الانتفاضة الاجتماعية الأكبر في تاريخ لبنان حتى الساعة بفضل «العقد الاجتماعي» العفوي غير المعلن العابر للطوائف والمذاهب والمناطق والفئات الاجتماعية. والتي لو لم تنطلق على أساس اجتماعي أولاً وأخيراً لكان تصيدها واستهدافها وإسقاطها في شوارع الطوائف من أسهل السبل.
هناك شريحة واسعة من اللبنانيين أولويتها معيشية، لأن لبنان فعلاً على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي، معظم القوى المكونة للحكومة لا تريد الإصلاح الفعلي الذي يحد من مكتسباتها ومداخيلها التمويلية السياسية من قطاعات الدولة على حساب الناس، وتريد إبقاء القديم.
هل يعتقد رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون الذي رفع شعار «الإصلاح» بعد عودته إلى لبنان، أنه يستطيع عبر القول في خطابه الأول منذ هدير لبنان غير المسبوق، بأنه يجب النظر في الواقع الحكومي أي – تعديل الحكومة- إعادة المنتفضين إلى بيوتهم، والهدوء إلى الشوارع والساحات التي غصت بمليون مواطن لبناني، من كافة المذاهب والطوائف ومن كل المناطق اللبنانيّة من دون استثناء، وان ذلك كافٍ، للشباب الذين عبروا طوائفهم في ١٧ أكتوبر وحطموا «خط الطائفية «!!
كان متوقعاً ألا يستقبل المتظاهرون في الشوارع بترحاب، كلمة عون، فهم لم يجدوا في متنها « فتوحات» تلاقي مخاوف اللبنانيين من شبح الانهيار المالي والاقتصادي. ولعل السلطة السياسية المصدومة بهدير الانتفاضة تراهن على عامل الوقت لتراجع هذا الزخم أولاً ولتحول الكثير من عوامل إذكاء الاحتجاجات الى عناصر مؤذية لها وانقلابية ضدها.
بالتأكيد أن ما يجري في لبنان رغم جماله ليس ثورة حتى يسقط النظام، من الواضح أن إسقاط النظام في لبنان غير ممكن، بسبب خصوصية النظام نفسه، الفريد من نوعه، النظام اللبناني المعقد هو وليد التركيبة الأكثر تعقيدا في العالم … في لبنان ١٧ طائفة لا يمكن شطب واحدة منها مهما كان عددها محدوداً. يضاف إلى ذلك وجود عنصر يمكن أن يطلق عليه «الباب العالي» أو الوصاية الدولية على لبنان.
هذه الخصوصية، شديدة التعقيد هي التي تجعل النظام اللبناني هشاً وصلباً، وتجعل من تغيير النظام شبه مستحيل، لكن تطويره ممكن.
لبنان الذي بدأ قبل مئة عام كمشروع حداثي، رأت فيه البطريركية المارونية آنذاك السبيل إلى ضمان الوجود المسيحي في مشرقه لا في إطار صدام مع محيطه، بل من خلال الانتقال بالمجتمعات المسيحية وتلك المجاورة لها إلى منطق المرجعية الوطنية المنفتحة.
كان تاريخ لبنان منذ نشأته الحديثة، جدلية سياسية اجتماعية اقتصادية، وحركة صراعية بين التواصل الأفقي الصاعد العابر للطوائف والقائم على القيم والمصالح المشتركة، والتقسيم العمودي المستنفر للحس الطائفي، والقائم على العلاقة الزبائنية بين الزعامات وجمهور طوائفهم، وشهدت العقود المنصرمة، عوامل طارئة وقاسية للحالة اللبنانية، ليس آخرها، اقتحام إيران للمشهد اللبناني، وإنتاجها سلطة فوق سلطة الدولة اللبنانية.
ومن المصادفات الدراماتيكية، أن تتزامن انتفاضة 17 تشرين مع الذكرى الـ30 لولادة اتفاق الطائف وسط انفجار الصداح الشعبي العالي السقف على نحو جارف غير مسبوق بإسقاط النظام والطبقة السياسية، وتفاعل ضخم بين الشارع الغاضب من جهة وسلطة مترنحة مرتبكة.
وبرزت المظاهر المستفزة لمعيشة الأثرياء وذوي المناصب والنفوذ، مقابل مظاهر البؤس الاجتماعي، بشكل فاقع في السنوات الأخيرة، أو ما يمكن تسميته النموذج النافر جدّاً، والذي وفقاً لديفيد هارفي هو «مراكمة رأس المال بانتزاع الملكية من الطبقة الوسطى، بديلاً عن مراكمة رأس المال بالتربح من توسع العمل، وزيادة الإنتاج»، صاعق تفجير للانتفاضة الشعبية.
كان لا بد من الوصول إلى هذا الانفجار، في بلد معتم بالظلام، مظلوم بالرغيف، مذلول بأقساط المدارس وخراب الطرقات، وحيث يتعاطى أهل السلطة، بعجرفة وغطرسة مع أهل البلد.
وفي قطيعة شبه كاملة مع الماضي القريب والبعيد، غيّر جيل جديد من اللبنانيين أدوات المواجهة مع السلطة، ونقلوها من أزمة حكم أو صراع على السلطة إلى أزمة نظام. أزمة لم تكن تتوقعها أحزاب السلطة. وسقطت في الشارع الورقة الإصلاحية التي ابتكرتها الحكومة المترنحة، دون أن يقرأ منها المتظاهرون حرفاً واحداً. لأن المشكلة هي في مَن يطرح الحلول، قبل أن تكون في طبيعة الحلول نفسها. المشكلة في فجوة الثقة التي باتت ثقباً أسود يبتلع كل التركيبة الحالية.
القوى السياسية التقليدية في لبنان مصدومة ومذهولة، وهي تلهث للحاق بالشارع دون أن تقوى على ذلك.

الأيام