أسماء الغول - النجاح الإخباري - علّق بعض من الشباب العربيّ على صور اللبنانيّات، في مظاهرات الاحتجاج الأخيرة في بيروت والمدن اللبنانيّة، بكثير من الكلمات والأوصاف ذات الإيحاء الجنسيّ، والتحرّش اللفظيّ، والنكات السمجة العنصريّة.

وعادة حين تنتشر صور كهذه، نرى تعليقات التزمّت الدينيّ والدعوة إلى الالتزام، لكن تنوّع الشعب اللبنانيّ كان الرادع أمام أحكام كهذه، إلّا أنّه في ذات الوقت فتح المجال أمام نوع آخر من المعلّقين المتحرّشين، الّذين وجدوها فرصة للفكاهة العنصريّة، الّتي تعبّر عن شهوة مصطنعة لجذب عدد أكبر من المعلّقين، كالـ "ميمز" الّذي يدعو مَنْ ينوي الزواج إلى الانتظار؛ لأنّ الثورة قامت في لبنان، ونساؤها قادمات لاجئات، وغيرها من المنشورات الّتي من الصعب إعادة كتابتها أو وصفها!

والغريب أنّ الصيحة ذاتها على "السوشيال ميديا"، الّتي استغربت خلو مظاهرات العراق من النساء قبل أسابيع قليلة، سخرت منهنّ وركّزت على أجسادهنّ وملابسهنّ في لبنان، وكأنّ النساء في الثورات يجب أن يرتدين زيًّا خاصًّا أو يكنّ على شكل معيّن من الحضور، يرضي المجتمعات المتفرّجة، أو كما قالت سيمون دي بوفوار: "المرأة كما الرجل هي جسمها، بَيْدَ أنّ جسمها شيء آخر غيرها"؛ وهو ما يعني أنّ جسد المرأة سيبقى إلى الأبد موضوعًا للفُرجة والانتقاد.

 وهذا الاهتمام بالنساء، بين حضور مكثّف في ثورة لبنان وحضور ضعيف في ثورة العراق، لم يُلقِ بالًا للفتيات المعتقَلات والمُلقَيات في السجون المصريّة، اللواتي اختُطِفن من المظاهرات في مصر الشهر الماضي، وكأنّ المجتمعات الّتي تتربّص بذكوريّة ثورة ونسويّة أخرى، لا مكان فيها للتعاطف الحقيقيّ مع امرأة معتقَلة أو شهيدة أو جريحة.

إنّ التعامل مع حضور النساء في الثورات، لا يختلف عن التعامل معه في البرلمانات العربيّة، وحصّة "الكوتا"؛ فهو حضور تابع للحزب السياسيّ، والوجود الشكليّ، بلا تأثير حقيقيّ أو التسليم بكون المرأة جزءًا من المجتمع فاعلًا وذا كفاءة، فهم يريدون من وجودها أن يكون بمنزلة قطعة لاكتمال الديكور، وفي حال وُجدت، فضمن شروط محدّدة.

ومن هنا كان التعامل مع كنداكة السودان بصفتها أيقونة، بلا تعمُّق حقيقيّ في دور النساء في ثورة السودان، وما فعلْنَه هناك وكيف تعرّضن لجرائم الاغتصاب والسَّحْل والسجن. إنّ الإبهار البصريّ أصبح الحصّة الكافية للجميع للقول إنّ المرأة كانت هناك، من غير أن يسأل أحد عمّا وراء "الهُناك"، وعمّا حدث لها.

هذه المتابعة الحثيثة للمرأة، سواء بالسلب أو الإيجاب، لم تكن بذات القوّة في الجولة الأولى من الربيع العربيّ، إنّما في الجولة الثانية؛ في لبنان والسودان والعراق والجزائر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأخيرة ظلَمها شُحّ اهتمام الإعلام العربيّ المشرقيّ بما يحدث على الساحة المغاربيّة.

هذا الحديث يُعيد لي ذكريات بداية الانتفاضة الثالثة في مدن الضفّة الغربيّة، حين خرجت الفتيات والنساء للتظاهر في فلسطين وإلقاء الحجارة، وبعدها في غزّة على خطوط التماس وفي حرائق الكاوشوك، لتأتي الانتقادات كبيرة وجارحة، بيْدَ أنّ كلّ شيء اختلف حين ظهرت صور اللبنانيّات بين حرائق الكاوشوك في بيروت، فكانت الردود عبارة عن فورة من التحرّش والاشتهاء الرخيص من قبل كثيرين جدًا، وفي الحالتين ما هي إلّا تعبير عن حالة ذكوريّة مريضة، تريدها محتشمة إذا كانت ابنة بيئتها، ومُباحة إذا كانت ابنة بيئة أخرى أكثر انفتاحًا!

ولن تكون الثورة يومًا بمعزل عن مجتمعها، بمعنى أنّها ستبقى تعبّر دومًا عن السياق الثقافيّ والاجتماعيّ الّذي وُلدت فيه؛ لذلك لا يمكن شوارع العراق ذاتها أن تكون شوارع السودان، وذاتها شوارع لبنان، مع أنّ القمع الوحشيّ ذاته في الدول الثلاث، واختباء المسلّحين بالزيّ المدنيّ أيضًا هو ذاته في الدول الثلاث.

لذلك؛ فإنّ التعبير عن الاحتجاج بالكلمات النابية، وانتشار هذه الفيديوهات بلا انتقاد المتظاهرين، مكسبٌ للثورة وحرّيّة الاحتجاج في لبنان لا ضدّها، بل يعبّر عن صراحة الشعب مع نفسه، ومع الإعلام والسياسيّين والعالم، من غير تكلّف ونفاق.

 ومن الصعب أن نقول في هذه الحالة "عيب"، بل يمكن القول إنّ الحشود فهمت سيكولوجيا اللعبة الأمنيّة، و"جابوها من الآخر"، وتدرّجوا في الاحتجاج وصولًا إلى ذروته؛ فالخبرة مع التهمة الأشهر الّتي تُوجَّه إلى المتظاهرين، وهي السقوط الأخلاقيّ، أصبحت وراءهم إلى الأبد.

ولذلك؛ كلّ فيديو كانت المرأة، أو الشابّ، أو الشيخ، يعبّر فيه عن وضع لبنان بكلمة نابية، كان مفهومًا تمامًا، من غير حاجة إلى أيّ شرح، ويذكّرني بتجربتي الشخصيّة حين خرجنا في حراك آذار في غزّة والضفّة، في منتصف آذار (مارس) من عام 2011 لإسقاط الانقسام، وحافظنا على الشعارات المتوازنة والأدب، واحترام رجال الأمن، حتّى مَنْ يصوّروننا. ومع أوّل ساعات المساء هجموا على آلاف المعتصمين بالعصيّ والأدوات الحادّة، وكانوا أيضًا يرتدون الزيّ المدنيّ، لكنّ الصدمة الكبرى ما كانت الضرب والخطف، بل الألفاظ والشتائم الّتي نعتونا بها مع بقيّة المعتصمين والمعتصمات، وكان الأولى ألّا نكون بهذه البراءة والسذاجة.

 لذا جاءت ثورة لبنان لتُعلن انتهاء الكلام المنمّق وزمن البراءة والأدب، مع أنّهم أهله، كما انتهى زمن هتافات التوسّل إلى الله، الّذي بدأ مع ثورة سوريا، حين ردّدت الجموع: "يا الله! ما إلنا غيرك يا الله". ولم يعد أحد يريد توصيل رسالة ما، بل التغيير هو المطلوب؛ فـ "كلّن يعني كلّن"، وليهتزّ مارشال ماكلوهين في قبره، صاحب النظريّة الأشهر في أهمّيّة الرسالة بعمليّة الاتّصال. إنّها الحشود يا سادة، مَنْ تفرض على الإعلام رؤيته هذه المرّة، وليس جمهور أو رأي عامّ يتلقّى التوجيه والتضليل منه، حشود تحرق رسالتها بلا مواربة، وتصنع الحاضر.

لقد انتهى زمن الكلام والصبر، والاحتيال على الغلاء وشظف العيش، والبحث عن اللقمة، و"كـ... من حكومة"، و"نـ... للوزير"، و"ناقص تحطّو ضريبة على ط...". ببساطة، فعلوا ما تعلّمت الشعوب العربيّة فعله منذ عام 2011؛ فقد عرفوا الطريق إلى الشارع، ولن يعودوا.

هذه الثورة لم يجرؤ أحد على أن يعلّق خلالها إلكترونيًّا: "ليش مش مغطّية راسك ..."، لكنّه في المقابل كتب: "هذه الثورة الّتي نريد أن نركبها"، ولا تختلف هذه عن تلك؛ فكلاهما يريان الجسد فقط.

إنّها أزمة الأبويّة والتسلّط الّتي يحملها الرجال والنساء معًا في مجتمعات مأزومة، تبرّر هذه الانتقادات بالخوف على القيم، لكنّه الخوف من الجسد الأنثويّ، والرغبة فيه في الوقت ذاته؛ فهو بالنسبة إليهم مصدر الفتنة الأولى، والسبب وراء آلام البشريّة حين أُغوِي آدم لأكل التفّاحة، وهوى من الجنّة، لتتسلّل إلى التاريخ نزعة كراهية النساء، أو ما يُسمّى باليونانيّة "الميسوجينيّة"، وهو قادم من مصطلح "الخوف من النساء" (Gynophobia).

إنّ ثورة لبنان تهزّ ذلك الغطاء القديم، وتُزيل غبرته المتراكمة، ولن توقفها تغريدات التحرّش الإلكترونيّ، فكما غابت الطبقيّة عنها، وأصبحت المناداة بإسقاط حكم المصرف هي الهتاف الأوّل، تصدّرت المساواة الصورة، بلا حوادث تحرّش أو انتهاك جماعيّ، وهو ما لحق بالمرأة المصريّة في المكان ذاته، الّذي اعتصمت فيه 18 يومًا في أثناء ثورة 25 يناير، وكأنّهم يعاقبونها، ويمسحون ذاكرة "ميدان التحرير" من كرامتها.

 لكنّ ذلك كلّه لن يحدث في لبنان!

المصدر: مجلة فسحة