برهوم جرايسي - النجاح الإخباري - أحيت إسرائيل، يوم الخميس الماضي، ذكرى إقامتها الـ70، ونحن فلسطينيي الـ 48 أحيينا في ذلك اليوم بالذات، ذكرى النكبة الـ70، من باب التحدي القائم على مر العقود السبعة: "يوم استقلالهم يوم نكبتنا". هم احتفلوا وملئوا المتنزهات والميادين، ابتهاجا. ونحن انتشرنا في عشرات القرى المدمّرة، ليقول لها الطفل قبل الكبير، إننا لعائدون.

وفي الوقت الذين كنا فيه مشغولين، في طمأنة حجارة البيوت المتناثرة في أطراف أراضي قرانا، بأنها حتما ستلتم على بعضها من جديد، لتؤوي أهلها المُهجّرين داخل الوطن وخارجه، كانوا منشغلين في البحث عن هوية، وعن تعريف ذاتهم: "قومية" أم لا، "شعب" أم لا. ونحن وهم أيضا، نعرف الحقيقة: أنهم لا قومية ولا شعب.

على مدى ما يقارب 130 عاما، تناطح الصهيونية لإقناع العالم، بأنهم شعب. ولكن الصهيونية تصطدم برأي تيارات دينية يهودية، ترفض تسميتهم بـ"قومية". وفي السنوات الأخيرة، صدر كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، للمؤرخ التقدمي شلومو ساند، الذي ألحقه بكتابين آخرين، "اختراع أرض إسرائيل"، و"لماذا لم أعد يهوديا"، وكلها مترجمة للعربية، وتباع في المكتبات. وليس هو وحده، بل أمثاله يتكاثرون.

جاؤوا إلى فلسطين، وأطلقوا مسميات غريبة عجيبة على أنحاء الوطن؛ ولكنها أسماء شاذة، عجينتها لا تلائم نسائم الوطن، ولا جغرافيته؛ فالأسماء عندنا للبلدات مرتبطة بواقع جغرافي، أو أحداث مرّت على المكان، أو أسماء شخصيات وعائلات.

وهكذا صارت قرية لوبية الفلسطينية "لافي". وصفورية "تسيبوري". وسملة "كفار شاليم". وبيسان "بيت شيئان"، وغيرها من القرى والبلدات في حين أن مستوطنات أخرى أطلقوا عليها أسماء مختلفة كليا. اقتلعوا قرى بأكملها، وصادروا حجارتها، سعيا لإخفاء معالمها. وتقريبا كل القرى المدمّرة التي بقيت أراضي خالية، زرعوها أحراشا، لذات غرض إخفاء المكان. إلا أن كل هذا لم ينفع، ففي كل تجوال في أراضي تلك القرى، تجد الصبرة، وشجر التين والتوت، وأساسات بيوت، وبقايا بئر ماء، وشواهد قبور، كلها تروي حقيقة هوية المكان.

لغتهم المشتركة هي لغة شارع، وما تزال اللغات الطاغية في البيوت، هي لغات أوطانهم الأم. حاولوا اختراع فولكلور، فتسمع أغانيهم وترى رقصاتهم، لتجدها لملمة تراث شعوبهم الأصلية. وفجأة صار عندهم "دابكا"، أشبه بالدبكة العربية، ويقولونها بلكنة عبرية.

لاحقونا في مطبخنا، وصاروا يقولون لنا: إن الفلافل والحمص، "أكلتان إسرائيليتان"، وأرادوا المنافسة عليهما في كتاب "جينيس". قلنا لهم، ما جذر هذه الأسماء في لغتكم، وليس في جيبهم جواب وتفسير، المهم أن يسرقوا وطنا وتراثا.

قالوا لنا إن الزعتر "نبتة إسرائيلية"، ولكنهم يهرعون إلى أسواقنا، لشرائه متبلا، كما هي التتبيلة الفلسطينية العريقة. وكي تكتمل الفرية، سنوا قانونا عقابيا شديدا، لمنعنا من قطف الزعتر المنتشر في جبال فلسطين، وصاروا يزرعونه في "مزارعهم"، أراضينا المسلوبة، وهذا غيض من فيض.

حينما أقاموا "دولتهم"، بحثوا عن لحن لقصيدة "نشيدهم الوطني"، بكلماته العنصرية الاستعلائية، فلجأوا الى أغنية رومانسية بولندية، فصارت "لهم". وهذا مستمر. فقد أقاموا منذ عام، لجنة وزارية عليا لإعداد "احتفالات 70 سنة"، وتحتها لجان مهنية في مختلف المجالات، وصرفت مئات ملايين الدولارات. وفي نهاية المطاف، أعدوا أغنية خاصة للمناسبة، عن "حب الوطن"، ليتضح أن القصيدة كتبتها شاعرة يهودية في الماضي، لحب وطنها الأم ليتوانيا. وهذا باعتراف الوزيرة المكلفة بـ"الاحتفالات".

أما نحن فكنا يوم الخميس، في قرية عتليت الفلسطينية المدمّرة، جنوب حيفا. كنا الآلاف المؤلفة من فلسطينيي، بحر جماهيري 48، نحيي الذكرى الـ70 للنكبة. وكان الجمهور الأعظم من جيل الشباب والفتية، وحتى الأطفال المواليد، يعرفون بالضبط أين هم. وأي رسالة جاؤوا يعلنونها في وجه الصهيونية، ولكل من يؤازرها ويراهن على زوال القضية.

على مر السنين، أجيال تلو الأجيال تحمل الذاكرة، وتحفظ معالم الوطن، بمسمياته الأصلية، وتقول إنه لا بديل عن حق العودة، وقيام الدولة. وشعب كهذا، لا بد وأن ينتصر.

... عن «الغد» الأردنية

[email protected]