مهند ذويب - النجاح الإخباري - جداتُنا الحكيمات نقلنَ عن جداتِهم اللّواتي صدّقن جداتِهم الأوائِل، ونحنُ خُبزنا على صاجِ أقوالِهن ردحًا من الزّمن، ولم تنضج الحكمة فينا بَعد، لكن عادَة ما يحضرنَ فينا، فأنا أظنّ مثلًا أنّ منتَصف أيار كانَ باردًا جدًا كجثّة؛ لهذا تسلّلت النّكبة هواءً مالحًا إلى أجسادِنا، ففضّل كنفاني أن يكتُب فيما بعد عن برقوقِ نيسان وأملِ الدفء المستمر، لا يُهم، فبعضُ الأمور ضربٌ مِن جنونِ الأزمِنة حينَ يصبِح الزّمان سديمًا من الدّم المعتّق، ويفقدُ تعاقبه الطّبيعي فوقَ هذه الأرض، ولا يبقى سِوى صَوتُ جداتِنا: " نيسان (بدفّي العريان)، وبَرد أيّار (خراب ديار) !".

 بكلّ الأحوال، - وبعدَ هذه المُقدّمة المملّة – أعتقدُ أنّ الحديثَ عن عقدِ المجلس الوطنيّ في نهايات نيسان الجاري أمرٌ جيّد، خاصّة بعد حالة التّشتت التي عانى مِنها الفلسطينيون في الفَترة الأخيرة، فكما استيقظ الفلسطينيون ذاتَ صباحٍ على انقلابٍ دمويّ في غزّة، استيقظوا على نقلِ السّفارة والاعترافِ بالقُدس العربيّة عاصِمة للدولة اللّقيطة، في مشهدٍ عرّى الولاياتِ المتّحدة ومن لفّ لفيفها من العرب بشكلٍ كامل، وأصبح على القيادَة الفلسطينيّة أن تحارِب على ثلاثة جبهات، أو أربعة، بعدَ أن تُركت وحدها أمام كلّ هذا.

شئنا أم أبينا، علينا الفَصل بين منظّمة التّحرير والسّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، المنظّمة كممثلٍ شرعي، وتجمعٍ لحركات تحرّر وطنيّ، والسّلطة بصِفتها وليدة اتفاقيّة هذه المنظّمة، ونواة بناءِ الدّولة، ومن هُنا تَأتي أهميّة عقد المَجلس الوَطني؛ لإعادَة تشكيل خيارات المنظّمة، واستراتيجيّاتِها، وخططها القادِمة، وعلى هذا المَجلس أن يُدركَ أمرين مهمّين:

أولًا: أنّ  مسيراتِ العودة الكبرى التي انطَلقت الجمعة الماضية تُشكّل قاعِدة شعبيّة يجبُ البناءُ عليها، خاصّة أنّها حالةً من الانفجار في الشارِع الفلسطيني، هذا الانفجارُ الذي ذهبَ إلى الاتّجاه الصّحيح تمامًا نحوَ الاحتلال، ولم يتّجه للفَوضى والاقتِتال الداخِلي رغمَ توفّر الأرضيّة الخصبة لذلك، ومِن المَعلوم أنّ المسيرات هذه سَتستَمر حتّى مُنتصف أيار المُقبِل، وهي مَسيرات وطنيّة شعبيّة لا يحرّكها أي فصيل، رغمَ محاولاتِ حماس ركوبَ موجَتها إلّا أنّ الشّعب يتذكّر جيّدًا أنّ حماس نفسها منعته من الوُصول إلى السّياج الفاصِل – ولن أقول الحُدود بالمُناسَبة – بالعِصيّ قبل عامين في ذكرى يوم الأرض الخالِد.

ثانيًا: أنّ الشّعب الفلسطينيّ، وخاصّة مَن يرابِط الآن – بالمَعنى اللّغوي البحت للكلمة – على أطرافِ القِطاع، ويحضّر لجمعةٍ عنوانُها الإطارات والمَرايا في مشهدٍ يشبه الانتفاضة الأولى نوعًا ما، مستعدٌ تمامًا لقبول وتطبيقِ أيّ قرار عادِل سَيصدُر عن المَجلس الوَطنيّ، وأي قرارٍ لن يصدرَ عن المَجلس الوَطنيّ !؛ لهذا يجب أن تكونَ القرارات بحجمِ ثقة هذا الشّعب، وبحجم تضحياتِه على مدى سبعينَ عامًا مِن النّضال.

إنّ الذهاب إلى المَجلس الوَطني هو استِحقاق وطني فلسطيني، بعيدًا عن الأحزابِ التي تتحدّث من أوائِل التسعينات عن نيّتها دخول منظّمة التّحرير، وتغيبُ الآن عن المجلس، وبعيدًا عن خُفوت خيار المُصالحة، وبعيدًا أيضًا عن الكونفدراليّة، وسيناء، و(صفعة) القَرن، والتّصفية العربيّة، وقريبًا فقط مِن قرار فلسطينيّ جريء وموحّد ومستَقل، يلبّي متطلّباتِ المَرحلة، ويكونُ كفيلًا بكسبِ الأرضيّة الشعبيّة، وإنهاءٍ شعبيّ أيضًا لانقلابِ غزّة، ويكونُ محبطًا لكل المُحاوَلات التي تهدِف لتضليل وتغيير قرارت الشّرعيّة الدّوليّة، وخطوة في الاتّجاه الصّحيح نَحو دولة فلسطينيّة مستقلّة، عاصِمتها القدس.

غسّان كتَب ذاتَ مساء عن نيسان فقال: " عندما جاءَ نيسان أخذت الأرضُ تتضرّج بزهر البرقوقِ الأحمر، وكأنّها بدن رجلٍ شاسِع، مثقّب بالرّصاص، كان الحزن وكان الفرح المختبئ فيه مثلما تكون الولادةُ، ويكونُ الألم"، وأنا أرجو أن تكونَ نهاياتُ نيسان ولادَة جديدة، تُعطي الدّفئ لأيّار، وتَحميه من أنْ يكونَ بردًا و(خرابَ ديار)  !.