محمد علي طه - النجاح الإخباري - كلّما سافرنا معًا في الطّريق السّاحليّ لا يتوقّف لحظة عن ذكر أسماء الأماكن العربيّة الفلسطينيّة التي نمرّ بالقرب منها فيشير إلى القرى المهجّرة ويذكر أسماء عائلاتها ومساحة أراضيها وما جرى وما صار لأهلها، ولا ينسى أسماء الوديان والجداول والتّلال والمقامات والآبار والبيّارات والكروم والخِرَب والأحداث التي وقعت فيها في زمن الأمويّين والصّليبيّين والعثمانيّين والانجليز. يقول بثقة: على هذه التّلة الصّغيرة كانت معركة قاسيّة بين الجّيش العراقيّ وبين القوّات الاسرائيليّة في العام 1948. لقد ظلمنا الجّيش العراقيّ حينما ألصقنا به تعبير "ماكو أوامر" ثمّ يقول بعد أميال قليلة: في هذا الوادي حدثت معركة حامية الوطيس بين الثّوّار وبين الجيش الانجليزيّ وخسر الإنجليز طائرة، وقد اعترف الإنجليز في وثائقهم ببسالة الثّوّار. وعندما نمرّ ببلدة عنبتا يقول: في هذا المقهى ألقى الشّاعر عبد الرّحيم محمود قصيدته التي خاطب بها الأمير السّعوديّ، ويلقي أبياتًا من القصيدة. وبعد فترة يقول لي: هل تعرف أنّ هناك حيًّا في مدينة يافا مازال اسمه ام خالد لأنّه رفض العبرنة والتّهويد مثلما رفضتها أحياء عديدة في بلادنا مثل حيّ المصرارة وحيّ القطمون وبلدة كفار سابا.

صديقي المؤرّخ مصطفى كبها يعرف جغرافيّة بلادنا مثلما يعرف راحة يده ويدهشك حينما يسرد لك أسماء الأماكن وأبعادها اللغويّة والتّاريخيّة والاجتماعيّة، وإذا ذكرت على مسمعه اسم قائد فلسطينيّ أو كاتب أو شاعر أو مناضل أحاطك علمًا باسم بلدته وعشيرته وأفخاذها وأنّ جدّ عائلته قدم من العراق أو من الحجاز.

فاجئني عندما قال لي أنّ عائلتي قدمت من معرّة النعمان في سوريا إلى ميعار في الجليل وأنّ أصل العائلة يعود إلى قبيلة من الطّائف. يحرس بروفيسور مصطفى كبها الأسماء العربيّة من العبرنة مثلما يحرس بؤبؤيّ عينيه وقد وجدت في مشروعه العلميّ والوطنيّ ما حاولت ترسيخه في قصصي القصيرة منذ السّتينات من القرن الماضي عندما أصرّ يوسف العبد الله بطل قصّتي "حكاية ابريق الزّيت" أنّ ساحة باريس في حيفا هي ساحة الحناطير "مع أنّه والله العظيم لم يشاهد حنطورًا واحدًا بها منذ وطئت قدماه لأوّل مرّة شوارع حيفا وبدأ يعمل في النّافعة".

هكذا كتبت في قصصي العديدة إلّا أنّ مصطفى يقدّمه لنا بصورة علميّة موسّعة وموثّقة في كتابه القيّم "لكلّ عينٍ مشهد" فيرصد تسمية الأماكن في القطاع الغربيّ لقضاء طولكرم الانتدابيّ، ويستهلّ كتابه بخلفيّة تاريخيّة وبدراسة عن التّعامل مع الأسماء العربيّة وكيفيّة نقلها وتسجيلها في الخرائط الاسرائيليّة مثلما أجبرت حكومة إسرائيل مجلس رعنانا المحليّ في أيّار 1956 على تغيير اسم حيّ "خربة عزّون" إلى "نافيه سديه".

اعتدت أن أقدّم مصطفى كبها لأصدقائي ومعارفي في اللقاءات والندوات أنّه "موسوعة فلسطينيّة تسير على قدمين"، تقرأ وتبحث وتوثّق وتسير إلى الأمام.

"لكلّ عينٍ مشهد" مرجع غنيّ لكلّ دارس ولكلّ باحث في أسماء أماكن بلادنا، وهو مورد للأجيال الشّابّة بل لنا جميعًا.