عقل أبو قرع - النجاح الإخباري - في مجتمعات عديدة، متطورة وتتطور، يعتبر وجود استراتيجية بعيدة المدى للبحث العلمي أولويه وطنية للبقاء وللتقدم وللمنافسة، هذه الاستراتيجية من المفترض أن يكون الهدف منها هو إيجاد الحلول للاحتياجات، أو لتطوير أوصاع ومنتجات، أو لسبر آفاق جديدة تسهل على حياة الناس من ناحية النوعية والجودة والكفاءة وحتى من ناحية الكمية، وما الى ذلك، وهذا ما تقوم به مجتمعات أو دول تقدمت وتتقدم، وقامت بتحديد بنودا ثابتة للبحث العلمي، سواء في الموازنة الحكومية العامة، أو في الاستراتيجيات الوطنية، أو في التخطيط قصير وبعيد المدى، من أجل تلبية حاجات المجتمع المتزايدة والمتشعبة، سواء في قطاعات الغذاء والزراعة، أو الصناعة والتكنولوجيا، أو الأدوية والطب، أو في قطاعات المياه والطاقة والبيئة وما الى ذلك.

وعلى المستوى العالمي فإن الأبحاث العلمية هي إحد العوامل الأساسية لتصنيف الجامعات أو المؤسسات أو الشركات، لذا فإن الجامعات العريقة في العالم والتي عادة ما تحتل المراتب المتقدمة من تصنيف الجامعات تمتاز باحتوائها على مراكز الأبحاث من حيث النوعية ومن حيث استقطابها للكفاءات البشرية، وللقيام بالأبحاث ونجاحها، يجب توفير البيئة الصالحة لذلك، والأهم هنا ليس توفير الدعم المادي فقط ولكن توفير النزاهة والشفافية في تحديد الاحتياجات واختيار الباحثين وتوزيع المسؤوليات، وكذلك البيئة الصحيحة للتقييم والمتابعة وقياس الإنجازات، والأهم توفير الهيئات المتخصصة للقيام بذلك وعلى أسس علمية ومهنية سليمة.

ومن أجل الإرتقاء بالبحث العلمي في بلادنا، فإن من المهم هو توفير الإمكانيات الخاصة بتنسيق الطاقات والمصادر سواء أكانت بشرية أو مادية، وتعمل كذلك على تحديد الأولويات التي تنبع من إحتياجات المجتمع ويقوم بربط ذلك مع الإمكانيات المتوفرة في الجامعات ومراكز ومؤسسات البحث العلمي، ومن المهم أيضاً العمل على استغلال الكفاءات الفلسطينية، وهي كثيرة ومتعددة، والعمل على الحد من هجرتها الى الخارج والعمل كذلك من أجل عودة إجتذاب الكفاءات والباحثين الذين هجروا بسبب شحة البحث والاهتمام به، وبأن تعمل على تغيير نمط التعليم الحالي في بلادنا، بحيث يكون التعليم مبنياً على التفكير والبحث والإبداع والإنتاج، وأن يتم ملائمة طبيعة ومخرجات التعليم لتساهم في سد إحتياجات المجتمع، والأهم ربط هذه المخرجات مع إحتياجات سوق العمل، وبالتالي الإبتعاد عن عقدة البطالة ومضاعفاتها.

وعند الحديث عن البحث العلمي في بلادنا، فيجب التركيز على القطاع الخاص، حيث تعتبر الأبحاث إحدى ركائز هذا التقدم، وتعتبر الشركات التي تعتمد على الابتكارات والتجديد المتواصل إحدى هذه الدعائم، حيث تعتبر الأبحاث سر بقائها لكي تنافس في عالم شديد المنافسة، سواء لإنتاج أصناف جديدة أو تطوير أصناف أو وسائل موجودة.

والشركات العالمية الكبرى لها مراكز أبحاث خاصة بها، تفخر بها وتعمل جاهدة لاجتذاب أفضل الكفاءات والأدوات، وكذلك تفخر بالميزانيات التي يتم تخصيصها لها، وعلى ذكر ذلك فإن الشركات الكبرى في العالم تخصص مثلا مبالغ قد تصل الى حوالي 20% من مبيعاتها السنوية، للأبحاث والتطوير التي هي عماد التقدم وحتى البقاء.

وفي بلادنا، ورغم الخطوات الجادة بتوفير دعم مالي ولو بسيط للبحث العلمي، الا أننا لم نصل بعد الى مرحلة ترسيخ أهمية أو ضرورة البحث العلمي، كسياسة وكمنهج وأسلوب لتلبية حاجات الناس والبلد، وبالتالي تسخير الميزانية والكوادر والجهود والقوانين والتشريعات من أجل تثبيته وترسيخه في المجتمع، لا يتغير بتغير الأشخاص في الوزارات أو في الجامعات أو في المعاهد أو في الشركات والمصانع والمزارع ومحطات الطاقة والمياه العادمة وأساليب التخلص من النفايات بأنواعها، وبالتالي فإننا لن نتقدم ونتطور وننمو وبشكل مستدام في طريق تحقيق نوع من الاكتفاء أو نوع من الإعتماد على الذات، إذا لم نقم بتغيير النظرة والعقلية والخطط المتعلقة بأهمية وواقع البحث العلمي.

عن "القدس"