حنان باكير - النجاح الإخباري - منذ يومين، تجتاحني سورة غضب عارم. وصراخ حبيس في حلقي، لم أستطع إطلاقه من عقاله. البوح تلجمه قضايا شائكة، وأشواك تجرح الحلق. ولأن ما بي من وجع، من أسبابه التخلف الإجتماعي، رأيت أن أقوم برسم مشاهد غير مفهومة بالنسبة لي، أو ربما هو فهمي صار خفيفا لأكثر من سبب. فالتغريدة التي تؤلمني، سيأتي وقتها، لأني سأقوم بتأجيل مهمة البكاء الى حين آخر. فقط أكون الآن قد أفرغت بعض الاحتقان.

السفر والترحال، هما نعمة أم نقمة، لست أدري. حين تنتقل من بلاد، اختارت لنفسها، نظاما اجتماعيا منحازا للإنسان كقيمة اجتماعية، الى بلاد اختارت العيش في الماضي، وتقديس قديمها، وكل ما جاء به السلف، فهنا يكون الترحال نقمة ومصدر وجع، عندما تستوقفك الفوارق.

تزور بلدا من بلادنا. فتشعر بالأسى للغتك العربية. فهي منبوذة، كطفلة في كنف زوجة الأب. الكل يتباهى بالتحدث بلغة أجنبية، فهي عنوان التحضر والثقافة لدى هؤلاء. ويستقدمون "الخدم"، لا أحب هذه التسمية الشائعة، بشرط إجادتهم اللغة الإنجليزية، للتخاطب مع الأطفال. يرطنون بعض كلمات وتعابير، حفظوها، دون إجادة كاملة للغة. وفي الغرب أيضا، يتباهى بعض الأهل، بأن أولادهم لا يجيدون اللغة العربية، ولا تستثني من هؤلاء، من يرفضون الإندماج في المجتمعات الغربية.. شيزوفرينيا اجتماعية! وهناك أيضا تلتقي، بكثيرين صاروا من حملة الماجستير والدكتوراه، من المدارس والمؤسسات الدينية، وكلها في علوم الفقه والحديث، بدل الإفادة من تواجدهم في بلدان متقدمة.. وما زلنا نهلل للداخلين في دين الله أفواجا، من الأوروبيين، وأجناس أخرى من البشر، رغم اكتشاف، المتسللين الى الدين لغايات تخريبية، كما حدث في العديد من قادة ومشايخ داعش، سيما في ليبيا!

أما موضة الأدعية الصباحية والمسائية، والطلب منك إرسالها، الى عدد معين من الأصدقاء، فتحصل على مليارات من الحسنات، أو المفاجآت السارة، فقد صارت ممجوجة حدّ التقزز.. واذا لم ترسلها، فإن غضبا جهنميا سوف ينصب عليك، لكننا لم نشهد نعمة بإهمالها ولا نقمة.

وما دمت في هذا المجال، فإن ما يثير الغرابة، هو عدم تصدي مرجعية دينية رسمية عليا، لهذا السعار والانفلات في الفتاوى التي حصرت همها فقط في الحور العين، وجسد المرأة، وكأن مجتمعاتنا عال العال، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فمن يوقف هؤلاء "الدكنجية"، الذين ينثرون فتاويهم الغريبة والعجيبة، لتسميم أفكار الشباب؟

يحدث أحيانا، أن تلتقي أمام باب أحد المحلات، أو في طريق ضيق، لا يتسع لشخصين، وعلى أحدهما التنازل للآخر.. في بلادنا يتجاهل الآخر حضورك، فينظر الى الأعلى، وكأنه لا يراك، و"يطحش"، حتى لو اضطر أن يصطدم بك، ولا من كلمة اعتذار. في المكان الآخر من العالم، عندما يحدث الأمر ذاته، ينتهي الإشكال بابتسامة وتحية، ويتنازل كل واحد للطرف الآخر.

من منّا، يحلم بابتسامة موظف بنك أو أي دائرة رسمية مهما بلغت بساطتها، حين يحتاج الى إنجاز معاملة ما؟ تلك هي وظيفته، لكنه يقدمها لك كمنّة منه. وكم من مرة، انتظرنا حتى يكمل الموظف مخابرة خاصة، أو دردشة سريعة مع زميل له.  أما في بلاد الطرف الآخر.. فإن لطف الموظف يوحي وكأنه يحتاج خدمتك وليس العكس.

هنا، تنتظر في الصف الطويل أمام الموظف، ثم يأتي موظف آخر، يغمز بعينه أحد المنتظرين مثلك، فيترك الصف ويتقدم على الجميع! بينما الموظفون هناك، يبتسمون لك، بلطف وتهذيب، ولا مجال "للزعبرة".

عند إشارة المرور الحمراء، تتوقف السيارات، وتتابع الدراجات الهوائية والنارية، السير مسرعة، وكأنها تعتمر طاقية الإخفاء. وهذا ما لا يحدث هناك. تفاصيل حياتية كثيرة، اعتدناها ولا نرى فيها خللا، لكن اختبار ثقافات مختلفة، تبرز فداحة ما نحن عليه، وكم من الوقت يلزمنا، حتى نشذّب الكثير من سلوكياتنا!