آيات عبدالله - النجاح الإخباري - كان اللون الأصفر اللامع في قبة الصخرة هو أول ما ملأ عيناي، حين دخلت إلى باحة الحرم القدسي بعد إنتهاء الإنتفاضة الثانية، وقد كانت هذه هي المرة الأولى في سنوات حياتي البالغة 15 عاماً حينها.
قطعنا يومها حدود الضفة الغربية مع أراضي الثمانية وأربعين عبر إحدى فتحات جدار الفصل العنصري والذي لم يكن قد إكتمل بناؤه حينها، هذا الجدار الذي شرعت إسرائيل ببنائه عام 2002 لعزل سكان الضفة عن مدن الداخل بما فيهم مدينة القدس، التي كان اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون بحات الأقصى فيها أحد الأسباب الرئيسية لإندلاع الإنتفاضة الثانية.
قبل تلك الزيارة لا أذكر سوى معلمة التربية الإسلامية، تقف أمامنا في الصف تخبرنا كيف يهتم الاسرائيلون باصطحاب أطفالهم إلى الأماكن الأثرية والدينية في فلسطين ليغرسوا فيهم أن هذا البلد لهم، كما يدعون .
تضيف بعد حديثها سؤالاً "من منكن ذهبت إلى زيارة المسجد الأقصى مع ذويها؟" تجيب طالبة أو إثنتان ونتبادل نحن الأربعون الباقون النظرات الحائرة.
كانت الصلاة الأولى مفعمة بفرح، الوصول إلى المدينة التي لا تبعد عن مدينتي نابلس سوى 67 كيلو متر، إلا أننا محرومين من الوصول إليها إلا بتصاريح زيارة وفي أوقات محددة، وإذا طبق الإسرائيليون مشروع التقسيم الزماني والمكاني سيكون الدخول إلى باحات الحرم في ساعات معينة فقط خلال النهار.
قبل عدة أيام كشف أرشيف الدولة الإسرائيلية عن إفادة الحاخام العسكري للجيش الإسرائيلي عام 1967، شلومو غورن، حين دخل مدينة القدس لأول مرة بعد إحتلالها، يروي غورن أنه كيف حمل التوراة والبوق إلى حائط البراق، ثم أدخلهما إلى قبة الصخرة المشرفة.
يقول غورن: "عندما وقفت في باحة جبل الهيكل -الحرم القدسي- اطلقت البوق أولاً، ثم ركعت على الأرض وصليت، كما يجب الركوع في المكان المقدس، الجنود والضباط هتفوا "كيفك"، بعد ذلك بدأوا جميعاً بغناء القدس من ذهب".
عندما قرأت هذه الإقتباسات تذكرت خطاي وخطا عائلتي ونحن في طريقنا للباحات المقدسة.
كل الزقاق المؤدية إلى ساحة الحرم تحضرك بقِدمها وحضارتها إلى الروحانية الموجودة في ساحات الحرم القدسي، المحلات وأنواع البضائع السياحية المنتشرة على طول الطريق تعطي حياة لهذه الحضارة.
مسنة فلسطينية بثوبها التقليدي، تجلس على جانب الطريق تبيع ورق العنب وأعشاب برية قطفتها بنفسها، يمر في هذا المشهد أمامك مستوطن إسرائيلي تميزه بلباسه الأسود، ولغته العبرية.
لا أذكر تفاصيل زيارتي الاولى كثيراً، لكن زياراتي المتعدده بعدها خلال الأعوام الماضية، حفرت تفاصيل المكان في ذاكرتي.
وصلت في إحدى الزيارات عام 2014 برفقة شقيقتي، صلينا الظهر في مسجد قبة الصخرة والمحدد غالباً لصلاة النساء، بينما يصلي الرجال في المسجد القبلي، خرجنا بعدها لباحات المسجد كان الأطفال من طلاب العلم في صفوفهم التي تشكل جزءاً من سور الحرم، وفي بعض الجهات يشكل الجزء العلوي من السور بيوت ما زال يسكنها بعض الفلسطينيون من أبناء المدينة.
توجهنا إلى المتحف الإسلامي قرب باب المغاربة، الباب الذي تقتحم منه مجموعات المستوطنيين الحرم القدسي بشكل يومي تقريبا، بحراسة جيش الاحتلال، ليستمعوا إلى شروحات حول رواية وأسطورة الهيكل المزعوم.
أتابع هذه الأخبار يومياً بحكم عملي كصحفية، ولا أنسى صبيحة اليوم الذي إستيقذنا فيه على خبر إستشهاد الشاب المقدسي معتز حجازي بعد محاولته إغتيال يهودا غليك الناشط الإسرائيلي الذي يقود هذه الإقتحامات في الغالب.
خرجنا بعدها نبحث عن الجمال الكامن في أزقة البلدة القديمة، بيوت متهالكة يسندها أصحابها بأعمدة من حديد، لأنهم ممنوعون من الترميم والبناء، كإحدى الأساليب التي يتبعها جيش الاحتلال في الضغط عليهم لتهجيرهم، تذكرت حينها الصور التي تخرج من القدس لمواطنيين فلسطينيين يهدموا بيوتهم بأيديهم، تحت ضغط القوانيين الإسرائيلية.
نقف أمام إحدى الأبواب وعلى جانبه حجر كتب عليه أن هذا البيت يعود إلى مواطن يهودي سكن المدينة منذ القدم، فيتدخل أحد المارة من أبناء المدينة ليروي أنه يعرف أصحاب البيت الحقيقيين، وأن كثيراً من لوحات التعريف في المدينة وضعها اليهود لمحو بقايا السكان المحليين فيها.
قبل كل زيارة أقرر أن هذه المره سأجلس قبل الغروب على الدرج المؤدي لباب العامود وأمضي بعض الوقت هناك، في ذلك الفضاء المطل على سور المدينة العالي، لكن في كل الرحلات كان الموعد المخصص لمغادرتنا هو وقت العصر مما يدخلني في عراك مع أمي.
وفي عام 2016 وعلى إثر تزايد عمليات الطعن في مدينة القدس أُصدر الاحتلال تعليمات بمنع المقدسيين من الجلوس على الدرج المؤدي لباب العامود حيث كثرت هذه العمليات.
الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية تتزايد على المسجد الأقصى لكنها أيضاً تطال كافة المقدسات ودور العبادة الفلسطينية، حيث يبين تقرير وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أن هذه الإعتداءات بلغت أكثر من 1200 إعتداء وإنتهاكاً عام 2016.
عندما زرت المدينة في المرتين اليتيمتين تراءت لي مثل حلم بعيد المنال قبل وصولها. وانا كصحفية فلسطينية عليها تتابع ما يجري داخل المدينة المقدسة أعرف أن علي تغطية ما يجري في المدينة لن يكون سهلاً أبداً من داخلها ما دامت مغلقة في وجه الفلسطينيين.. إنها ذات الصعوبة التي تواجهني عندما أحلم بالوصول إليها للصلاة.