نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - أشك كثيراً في معرفة ومتابعة القيادات الفلسطينية، من كل أنواع القيادات للأطروحات الإسرائيلية «الجديدة» حول «التكيف» الإسرائيلي، الذي باتت تراه إسرائيل ضرورياً مع مستجدات الوضع الدولي بقدوم بايدن إلى البيت الأبيض، ومع التطورات الكبيرة التي تطرأ على واقع الرأي العام في الولايات المتحدة، ومع تغيرات الخارطة الحزبية في إسرائيل، إضافة إلى الكثير الكثير من التطورات التي حدثت في الواقع الفلسطيني في الشهور القليلة الماضية، وخصوصاً بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
ويعود السبب في هذا الشك إلى أن انشغالات القيادات الفلسطينية تبدو وكأنها خارج نطاق التفكير والاهتمام بما تفكر به إسرائيل، وما يمكن أن تفكر به للخروج من المأزق الذي تعاني منه بصورة واضحة للعيان.
هذا المأزق في الواقع تعيه إسرائيل، وتعرف تبعات أن يبقى ماثلاً وقائماً دون أن تحرك حياله ساكناً، تماماً كما تعرف الأخطار التي تتهددها في حال أن تجمدت الأوضاع عند مرئيات «صناعة شراء الوقت»، أو عند حدود إبقاء الحال على ما هو عليه.
كتبنا في مقالات سابقة أن الولايات المتحدة قد «عادت» إلى ساحة الصراع في منطقة الإقليم، وأن استراتيجيتها بالانسحابات العسكرية في المنطقة لا ولن تترجم حيال الصراع في المنطقة بالانكفاء، أو حتى بالمراقبة من بعيد، ولا بالاكتفاء عند تخوم منع التدهور أو الانزلاق إلى حروب إقليمية من شأنها إرباك كل الخطط الأميركية على المستوى الكوني.
خطة تقليص الصراع تكتسب - كما أرى - أهمية بالغة ليس لكونها قابلة للحياة، ويمكن لها أن تتحول إلى إحدى قواعد «الحل» للصراع في الشرق الأوسط - فهذه مسألة لا يمكن البت بشأنها منذ الآن - بل لأن هذه الخطة يمكن أن تتحول إلى استراتيجيات الاعتراض الإسرائيلي على أي حل يتسم بدرجة أو أخرى من المعقولية السياسية في المدى المنظور.
من هذه الزاوية تحديداً فإن خطة تقليص الصراع تمثل تحديا كبيرا لنا، لأننا ببساطة يمكن أن نجد أنفسنا أمام هذه الخطة وجها لوجه في الأشهر القادمة، كما يمكن أن تباغتنا الإدارة الأميركية بها أو بما يمكن أن تعدله عليها قليلاً.
فما جوهر ومغزى هذه الخطة؟ وما هي مكامن الخطر الكبير فيها؟
ترجع الأوساط الإسرائيلية هذه الخطة إلى أستاذ التاريخ الإسرائيلي ميخا غودمان، والذي هو في الواقع شخصية معروفة بقربها من رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بينت، كما أن هناك من يربط بصورة مباشرة بين ما يطرحه بينت حول هذه المقولة، أي تقليص الصراع وبين كتاب «غودمان» «قصيدة ٦٧» وهو الذي ذكر نصاً في كتابه هذا الاصطلاح بصورة محددة.
فكرة تقليص الصراع هي محاولة للالتفاف على أي حل، لأن الحل غير ممكن أصلاً، لأن إسرائيل لا يمكن لها أن تتفق على حل طالما أن هذا الحل يساوي إنهاء الاحتلال.
هنا تكمن الأطروحة المركزية في هذا المفهوم.
بما أن إسرائيل ليس بمقدورها أن تتفق أو تتوافق على حل (والأمر أساساً هنا هو على الأرض الفلسطينية التي تم احتلالها في العام ٦٧)، فإن الإعلان الإسرائيلي رفض الحل الذي يطالب به المجتمع الدولي هو مغامرة سياسية لم تعد ممكنة في الواقع الجديد، وأن الضم أو الضم الكبير سيعني مغامرة أكبر، وأن إنهاء الاحتلال هو «مستحيل» على المجتمع الإسرائيلي، وأن إدارة الصراع لم تعد، لا عملية ولا مجدية .. إذاً لا بد من حل يقوم على أساس حكم ذاتي ليس مقلصاً على المستوى الاقتصادي، وصولا إلى إدارة اقتصادية تامة وشبه مستقلة، وعلى توسيع كبير في مناطق (أ + ب) والتشارك في إدارة منطقة «ج» دون السيادة الفلسطينية عليها.
بات معروفا الآن أن هذه الخطة لا تشمل أي تصورات واضحة ولا محددة للسيطرة على الموارد والحدود، كما أنها لا تطرح أي تصورات عن القدس أو أي من قضايا الحل النهائي، وتكاد تصل إلى التجاهل التام لقطاع غزة ومصيره، أو أن غودمان يعتبر أن مصير القطاع مؤجل أو أنه سيلحق بالوضع الجديد.
تقليص الصراع يحشر الحقوق الفلسطينية باستقلال شبه تام للفلسطينيين على الصعيد الاقتصادي، وعلى الصعيد السياسي أيضا بحدود السيطرة على ٤٠ - ٥٠٪ من الضفة، مع إنشاء مدن صناعية كبيرة وتشغيل ما يقارب نصف مليون فلسطيني في الاقتصاد الإسرائيلي (وهنا يبدو أن عينه على قطاع غزة).
تقوم الخطة على عدم الاحتكاك بين الاحتلال وبين السكان الفلسطينيين حتى يبدو الاحتلال وكأنه غير موجود، وأغلب الظن أن المستوطنين أيضا يندرجون في إطار هذا التوجه نحو عدم الاحتكاك.
إذاً هي خطة أعلى وأوسع من السلام الاقتصادي، وهي خطة يراهن عليها ويراها غودمان ناجعة لأن الفلسطينيين سيشعرون من خلالها أن الاحتلال لم يعد أمام أعينهم، ولا يطاردهم أو يتعقبهم، ولا يتدخل بشؤونهم وأن لهم من الصلاحيات ما هو أشبه بالدولة.
بل إن غودمان يقترح أن يتم دعم التوجهات الفلسطينية الرامية إلى حماية أنفسهم والاعتراف بهم كدولة.
هذه خطة جهنمية في الواقع، كخطة تصفوية للحقوق الوطنية، وهي خطة تلتف على إنهاء الاحتلال بوساطة اختفاء مظاهره، وهي خطة اعتراضية في منتهى الذكاء بقدر ما يتعلق الأمر بالصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها سكان الأرض المحتلة، كما أنها خطة قابلة للالتحام مع أي مبادرات يمكن أن تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة، أو حتى المجتمع الدولي.
وهي خطة مغرية لفئات فلسطينية بعينها وخصوصا فئة التجار والصناعيين الفلسطينيين لجهة حرية الحركة الاقتصادية، ولجهة الفرص الاستثمارية، ولجهة الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي هو عصب الحركة الاقتصادية.
هذه الخطة يمكن أن تصل في أبعادها التفصيلية إلى ما هو أبعد من ذلك في حركة النقل والتنقل، وإلى أشكال مبتكرة لقضايا الحركة من الحدود والمعابر والموانئ.
ليس فقط كل هذا، وإنما تهدف الخطة إلى درجة كبيرة من حرية التجارة مع الخارج إلى حدود لم تطرح سابقا بما ينهي عملياً اتفاقيات باريس الاقتصادية، وبما يؤسس لنظام خاص وجديد من المنظومة الجمركية الموحدة مع إسرائيل.
واضح هنا أن الخطة تقتضي توسعات كبيرة في مشاريع البنية التحتية، وخصوصا الطرق والجسور لأن كل الطرق والجسور التي تربط المناطق الفلسطينية ستكون حسب الخطة تحت السيادة الفلسطينية.
هناك تفاصيل كثيرة في الخطة تتعلق بتوسعة خرائط البناء، وحركة رؤوس الأموال وغيرها الكثير الكثير.
الخلاصة اختفاء مظاهر الاحتلال دون تفكيكه، والعمل على إقامة دولة معترف بها دولياً وبموافقة إسرائيل، دون حدود معترف بها.
هذه هي خطة تقليص الصراع، وهذا ما يفسر التقاط بينيت لها، وإعادة طرحها، والمراهنة على أن تكون في صلب الاستراتيجية القادمة للحل من وجهة نظر اليمين، ومن وجهة نظر بعض اليمين إضافة إلى كامل قوى الوسط في إسرائيل، بل وليس مستبعداً أن تحظى خطة كهذه بدعم اليسار، مع بعض الرتوش السياسية، ولا من قبل بعض المكونات اليمينية من خارج الائتلاف الحاكم في إسرائيل حالياً.
الذي يساعد إسرائيل على مثل هذه الرؤى والمبادرات هو غياب المبادرة الفلسطينية النشطة، واكتفاء القيادات الفلسطينية بهوامش القضايا والانشغالات الداخلية التي أرهقت الحالة الوطنية وأضفت هذا الجمود الخطير عليها.
إسرائيل تستثمر في حالة الركود والخمول والجمود التي نعاني منها، وهي تحاول أن تقطع الطريق على المجتمع الدولي، وهي تراهن على تواصل انشغالاتنا العجيبة.
أما الأهم من ذلك كله فأرى أن إسرائيل درست الهبة الأخيرة، وتعمقت في مدلولاتها، وبدأت تضع الخطط لقطع الطريق على ما يمكن أن يحولها إلى حالة انتفاضة وطنية شعبية سلمية وديمقراطية ستضع إسرائيل أمام الاختيار الأصعب: إما القمع والفاشية وانفضاح أمرها، أو التسليم بأن الاحتفاظ بالاحتلال أصبح مستحيلاً.