منال الزعبي - النجاح الإخباري - قصص| طلبة غزة الذين أنهوا مساقات المرحلة الأولى من مبادرة "يدًا بيد"

 

غزة الحزينة، بلدي ومسقط رأسي الذي أحب رغم كل ما مرّ ويمر عليها من مجازر ومآسي.. هكذا بدأت ليان محمد الشاعر حديثها، وهي طالبة مستوى أول طب بشري في الجامعة الإسلامية في غزة.

تروي تفاصيل تعج بالغصة والألم: "أنا كنت إنسانة ناجحة وطموحة رغم وجودي في مكان منكوب معزول عن العالم، حتى أنَّ كل شيء هنا صعب جدًا، إلا أنَّ لدي أحلام زرعتها بقلبي منذ الصغر حين لقمتنا المدرسة مقولة " من جد وجد ومن زرع حصد"، وفعلًا حصدت معدلًا عاليًا في الثانوية العامة بمجموع  99.4 ولم أحصل على منحة لأنَّ التفوق صفة أبناء منطقتي أيضًا حيث حصل الأول على المديرية على معدل 99.6" .

 

وتكمل ليان، كنت أستمد القوة من أهلي الذين آثروا أن أبقى في غزة وأدرس بها رغم أنَّ الدراسة في مصر أوفر ماديًّا، قدّرت حبّهم وخوفهم، وكنت أحمد الله على  نعمة الأهل، أتبنى شعار:

" Family always come first"

كان عندي حياة وعائلة جميلة، وكنت الإبنة المدللة ينادونني "الدكتورة"، كلّ همومي بالحياة الدراسة والعلامات، حتى جاءت الحرب وقلبت حياتي رأسًا على عقب، كنت مستعدة أن أتحمل كلّ شيء، كل شيء، إلا شعور الفقد، أن تفقد أن أفراد عائلتك هذا موت للروح وبقاء للجسد على قيد الحياة بالنسبة لشخص مثلي يقدّس العائلة.. ففقدت أبي وانطفأت مصابيح حياتي.

صرت أعيش غربة في بلد تغيرت ملامحه وابتلع أجساد الغوالي، دمار وفقد، حزن وجوع،  ولأول مرة بحياتي أشرب ماء فيه رمل، ماء ملوّث تراه بأم عينيك وتشرب لتبقى على قيد الحياة، حينها تذكرت وأنا أجلس مع عائلتي قلت لهم: يا الله كيف الحياة  .. قبل اسبوع كنت بدرس بشابتر الكيمياء عن مبدأ عمل فلاتر الماء البسيطة الي بيستعملوها في السودان وأقول الحمد لله ما وصلنا لهون وضحكنا، لككنا اليوم نبكي!!

كسر الاحتلال قلوبنا ولم يكتفِ بهذه المعاناة، فكان لنا شقة بعمارة وسط خانيونس (عمارة العيلة لكل عمّ طابق) تم قصفها خلال اجتياح -الحارة كلّها مسحت عن وجه الأرض- ويلات إثر ويلات نتجرعها منذ بداية هذه الحرب الوحشية.

وتنهدت ليان بحسرة أكبر من عمرها حين عادت للحديث عن التعليم: "توقفت الحياة بغزة، وتوقف معها التعليم، ولم تسلم مدارسنا وجامعاتنا التي حطموها تحطيمًا ومعها طموحنا وأملنا في غدٍ أجمل، بعد ثلاثة أشهر ظهرت أول مبادرة من جامعة واشنطن، بعد استشهاد أبي بفترة بسيطة، كنت منهارة كليًّا، فقدت الأمل والشغف، لأول مرة بحياتي أحس بالكسر والضعف، وأنني وحيدة بلا سند، وصار علي تحمّل مسؤوليتي، وأنا البنت البكر القوية التي عليها أن تسند أمها وأخوتها، بعد أن غاب الكتف الذي كنت أسند رأسي عليه  وأرمي هموم الدنيا وراء ظهري".

أردت تجاوز محنتي فالتحقت بالمبادرة وكأنها نجمة صغيرة أضاءت عتمة قلبي، لم يكن لدينا انترنت في البيت، فكنت أذهب إلى مكان بعيد لأتمكن من استعادة نفسي وتعليمي في وقت واحد، أخدت ٣مساقات (كيمياء وأحياء و البحث العلمي)، ثم لاحت في الأفق مبادرة النجاح، ولمعت أمام عيني كبريق أمل خاطف، انتسبت لها وسجلت أربع مساقات (أحياء، وتشريح عام، ومصطلحات طبية، وعلم أنسجة) ووجدتها بحق من أنجح المبادرات وأكثرها جدية اجتزنا فيها اختبارات وكويزات وعلامات حقيقية قابلة للقياس.

وأضافت أنَّ الأمور لم تكن وردية في ظل اجتياح رفح وانقطاع الإنترنت وتجدد المعاناة والخوف ، ولم يكن الأمر سهلا أبدًا، وكنت مع النجاح في منتصف الطريق  أواجه التحديات، مثلا عادي جدًا أن تمر ٣ساعات لتحميل صورة عبر واتساب، الإنترنت متاح بطريقة أقوى في الليل والفجر وفي أماكن محدودة وبعيدة (كانوا يجيبوا إنترنت نت من دير البلح) وفي ظل خوف أهلي علي كنت أترك جهاز الأيباد عند أناس لديهم إنترنت أتركه يحمّل المحاضرات في الليل، وآخده في الصباح لأتمكن من الدراسة، وكان المحاضرون متفهمين لم يقصّر أحدهم معي، يرسلون المواد عبر الواتساب لأنه ظام المودل يتطلب إنترنت أقوى.

أما فترة "الفاينل" فكانت صعبة للغاية دخل الجيش مواصي رفح القريبة منّا، استشهد الكثيرون، نزوح ورصاص طائش مصابون وشهداء وقصف متواصل في جو مرعب، لم يكن لدينا مكان نلوذ إليه من هذا الرعب  وبقينا في منزلنا في المواصي، كنت أدرس أحياء قلبي على كفي و"الكواد كابتر" تطلق الرصاص أصابني الأرق والتعب وساءت حالتي النفسية، خوف من الحرب وخوف من ألا أتمكن من تقديم امتحانات الفاينلا بعد كل هذا التعب لكن من فضل لله عدت على خير وفعلًا " لا يضل ربي ولا ينسى "، يسّر لي درب النجاح  ومحاضرين مرنين متعاونين ..ممتنة جدًا للمبادرة التي جمعتني بهم وأسأل الله أن تكون في ميزان حسناتهم إن شاء الله.