شبكة النجاح الإعلامية - منال الزعبي - النجاح الإخباري - في غزة يفيض الوجع بما لا تطيق النفس، جثث وأشلاء ورائحة دماء وصرخات جوعى وثكالى تملأ المكان، والأمهات لهن النصيب الأكبر من القهر والألم.

كغصن شجرة في قلب عاصفة ترتجف السيدة نيفين النديم وهي تناشد العالم بصوت مبحوح تصرخ: "بتستنوا محمد يموت مثل ما مات جعفر؟ شو الطريقة الي بدكم يموت فيها؟ صاروخ زنانة مثل أخوه والا إيش؟" 

بينما كان يفترض أن يسافر للعلاج، سافر جعفر  ابن الـ 12 عامًا إلى الجنة بصاروخ زنّانة، هكذا وصفت أمه فراقه وهي تتنقل الآن بتحويلات من جهة لأخرى، تحاول إنقاذ أخيه محمد قبل أن يتحول بدوره إلى رقم في نشرة الشهداء.

"جعفر تقطّع"
 شهقت الأم وهي تروي تفاصيل ما حدث، فتحت أوراقا بين يديها فيها جواز سفر جعفر وأوراق التحويله وهي ترتجف قائلة: "هاد جعفر كل الدنيا تعرفه من كثر ما عمل مناشدات، هاد قمري جعفر  أحلى واحد بأولادي، قبل أربع أيام كان نايم، طلع برة على الباب مع أخوته جاسم وعلاء، علاء رجع مصاب برجله وقبله بيوم كانت أخته لارا  أصيبت، قلت لعلاء وأنا شايفة الدم.. مالك يما؟ قال لي بسرعة شوفي جعفر!! قلت له جعفر نايم، قال لأ يما.. جعفر طلع قلت لزوجي شوف جعفر يا شادي كان عندي ما توقعت يكون استشهد!!

وتكمل بحرقة وألم وعويل: "راح زوجي يجيبه لقاه مقطّع، حنزل الفيديو وجعفر مقطع يمكن تحسوا!! يمكن يصير بقلبكم نتفة حنية على أهل غزة الي بموتوا والمعابر مسكرة ..وإحنا بنموت من الجوع! امبارح عشان أطعم أولادي جمعت أكل عصافير وحطيتلهم يأكلوه وأنتم خليكم قاعدين تفرجوا علينا حسبي الله عليكم.

طفل تحمل ما لا يطاق 

لم يرَ جعفر من طفولته سوى المستشفيات. مذ كان عمره ستة شهور، وأمه تركض به من عيادة إلى أخرى. بسبب مرض في أذنيه، لم يعرف المقاعد المدرسية إلا لوقت قصير، نصف عام فقط، أما بقيّة أيامه فكانت موزّعة بين عمليات وتدهور متكرر في حالته، سافرت به إلى القدس وإلى مصر قبل الحرب.

في الحرب وأثناء نزوح العائلة إلى الجنوب تعرّض جعفر لإصابة أدت لتدهور حالته الصحية، تروي الأم: "جعفر تسوّس عنده عظم الأذنين، وكان كل ما يسمع صوت انفجار ينزف من أذنه دم… كان جسمه يرتجف حتى في النوم".

وتضيف: أصيب بحرق في وجهه بعد أن انسكب عليه طعام ساخن كان يحضره من التكية. وعندما بدأت الحرب الأخيرة، كان من المفترض أن يغادر للعلاج في الخارج. لكن الحرب سبقت كل شيء.

حتى اللحظة الأخيرة كان لديها أمل أن توفر العلاج لأبنائها المرضى، ورغم قهر الفقد تفيض بنداء استغاثة يُوجّه إلى الإنسانية جمعاء. كل صباح كانت تفتح جوالها على أمل أن تجد رقمًا من منظمة الصحة. "لكن التحويلة الوحيدة اللي طلعت لجعفر كانت للجنة..."، ترتجف باكية، فتسكت قليلاً، ثم تكمل: "جعفر  الحين عند ربه، بس أنا ببكي على العيشة الي عايشينها بغابة."

التحويلة المنتظرة

فتحت الأم أوراقًا تتشبث بها كنداء استغاثة أخير .. جواز السفر، تحويلة وزارة الصحة، موافقات سابقة، وفيديوهات نداءات لا حصر لها.

ابنها الثاني، محمد شادي النديم (24 عامًا)، يُعاني من المرض ذاته، لكن في أذن واحدة.
"من سنين وأنا بجري فيه… والكل بيحكي بدها واسطة. وأنا واسطتي ربنا. محمد بده يطلع، بخاطركم وغصب عنكم بده يتعالج"، تصرخ في وجه الصمت، وتوجه السؤال لمنظمة الصحة: بأي طريقة بدكم يموت؟ بصاروح والإ قذيفة؟ 

عائلة تقف على حافة الانهيار

العائلة، المهجرة والمشردة، 12 نفرًا يسكنون  بين الأنقاض، يعانون من الجوع. 

وفي مشهد يختصر الجوع والخذلان، تقول الأم:
"امبارح جمعت أكل عصافير حطيته قدام أولادي يأكلوه… وأنتم قاعدين تتفرجوا علينا، حسبي الله عليكم."

قصة هذه الأم وأولادها ليست استثناءً في بقعة تفيض بالوجع، لكنها باتت الآن علامة فارقة على حجم المأساة الصحية والإنسانية في غزة. طفل قضى ينتظر تحويلة. وأم ما زالت تحتفظ بالأوراق، لا لتُسافر، بل لتتذكّر أن ابنها كان يستحق الحياة.

وفيما لا تزال الحرب تفتك بكل شيء، تبقى التحويلة الثانية الخاصة بمحمد معلّقة
فهل ينتظر العالم أن تصدر له تحويلة هو الآخر… إلى السماء؟