هيا قيسية - النجاح الإخباري - في فجر السابع من أكتوبر 2023، أُطلقت شرارة الحرب التي اندلعت كالعاصفة على قلب غزة، لتبدأ فصول مأساة جديدة في سجل الحروب التي عاشتها غزة سابقا ولكن لم تشهد لهذه الحرب مثيلا من قبل..
تحت ظلال السماء المظلمة، باتت أراضي غزة ساحةً لمعارك لا تتوقف، تحولت إلى لوحة قاسية من الألم والدمار، أصوات القصف والإنفجارات تخترق صمت الليل، وجراح الحرب تخلف آثارها العميقة في قلوب الغزيين الذين كانوا بالأمس يعيشون حياة بسيطة ولكنها مفعمة بالأمل، رغم حصار كان حينها خانق، مقارنة بما آلت إليه الحرب اليوم من دمار وتدمير لمقومات الحياة.
فقد باتت العائلات تحت الحصار المطبق، تعاني من مجازر دموية تترك وراءها موجات من الرعب والتشريد.
الأطفال، الذين كانوا يملؤون شوارع غزة برائحة البراءة واللعب، أصبحوا اليوم ضحايا الخوف والجوع، في حين تحوّلت مدارسهم وملاعبهم إلى أماكن مظلمة تسرد قصص الألم والاحتياج.
أما النساء، خاصة الحوامل والأمهات، تجرّعن في هذه الحرب الدامية طيلة العام بلا توقف معاناة مضاعفة، من قلق وخوف وافتقار الرعاية الصحية لهن ولأطفالهن..
أثر هذه الحرب، بعد مرور عام على اندلاعها، يتجلى في كل زاوية من زوايا غزة.
فقد أُصيبت الحياة بالشلل الكامل، وأصبح البقاء أمراً يُحارب من أجل تحقيقه. ورغم كل الجهود المبذولة للتخفيف من معاناة الفلسطينيين، يبقى الواقع المؤلم دليلاً قاطعًا على حجم الكارثة الإنسانية التي تعاني منها هذه البقعة الصغيرة على خريطة العالم.
تأثير الحرب على الأطفال والمراهقين في غزة.. بين الألم والفرص الضائعة
منذ اندلاع الحرب عانت غزة من قسوة غير مسبوقة، حيث كان الأطفال والمراهقون في قلب هذه المعاناة، يواجهون صدمات نفسية وجسدية تترك آثارًا عميقة على حياتهم ومستقبلهم. الصور ومقاطع الفيديو التي توثق معاناة هؤلاء الصغار تكشف عن مشاهد مؤلمة تعكس حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشونها.
مدير مركز الاستشارات والصحة النفسية في جامعة النجاح الوطنية د. شادي أبو الكباش، قال إن المشاهد اليومية للمجازر والفقد، ووداع الأمهات لأبنائهن تحت الأنقاض، تركت أثراً نفسياً عميقاً على الجميع لا يمكن اختزاله في أعراض قصيرة المدى. بل تجاوزت هذه الأعراض مراحل القلق والاكتئاب إلى حالات متقدمة من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، والحزن المتواصل، وعدم القدرة على الفرح أو التعبير عن المشاعر بشكل طبيعي.
كما أن الأحداث النفسية الجماعية التي يمر بها أهل غزة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، مما أثر بشكل كبير على علاقاتهم الاجتماعية وأولوياتهم. تابع أبو الكباش.
الحرب تحولت إلى نمط حياة
هذا وأوضح أبو الكباش أن الحرب لم تعد مجرد حدث طارئ، بل أصبحت جزءاً من الروتين اليومي لسكان غزة والضفة الغربية.
وأضاف أن " الخوف من الاحتلال و النزوح المستمر وعدم الاستقرار، كلها عوامل جعلت الناس تغير من نمط حياتها وأولوياتها، والأطفال لم يعودوا يعيشون حياة طبيعية بل باتوا محاصرين داخل دائرة مستمرة من القلق والتوتر، حيث بات الصوت المستمر للطائرات والانفجارات جزءاً لا يتجزأ من تجربتهم اليومية.
الاضطرابات النفسية على المدى الطويل
ويرى أبو كباش أن المستقبل يحمل تأثيرات نفسية كبيرة على أهالي غزة، خاصة الأطفال الذين تأثروا نفسياً بمرور أربع حروب في غضون عشر سنوات.
مضيفا أن اضطرابات القلق والصدمة لن تنتهي بانتهاء الحرب، بل قد تظهر بشكل أكثر عمقاً في مراحل لاحقة، نظراً لضعف دعم الأسرة والمجتمع في بعض الأحيان، مما يزيد من هشاشة الأطفال ويجعلهم أكثر عرضة للأذى النفسي.
جهود الدعم النفسي المطلوبة
هذا وأكد أبو الكباش على أن أهل غزة بحاجة ماسة للدعم النفسي والاجتماعي المستمر. فبرغم قوتهم وصمودهم أمام المحن، فإنهم بحاجة لتوجيه رسائل دعم مستمرة، تعزز من قوتهم النفسية وتساعدهم على تجاوز الصدمات. كما دعا إلى دراسة حقيقية لما بعد الحرب، تشمل إعادة الإعمار النفسي والاجتماعي للمجتمع، من أجل إعادة بناء غزة وحماية الأجيال القادمة من آثار الحرب الطويلة.
وختم حديثه أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن التأثيرات النفسية ستكون طويلة الأمد، مما يتطلب تضافر الجهود لدعم المجتمع الغزي على المستويات النفسية والاجتماعية.
غزة بعد الحرب: العودة إلى البدائية وأثرها النفسي على السكان
مراسلنا عبد الهادي عوكل من شمال قطاع غزة يقدم لنا صورة مؤلمة عن التحولات الحادة في الحياة اليومية لأهالي القطاع، والتي لم تعد كما كانت قبل السابع من أكتوبر.
وقال :"في ذلك الوقت، ورغم أن الحياة لم تكن سهلة، حيث كان آلاف السكان يغادرون غزة بسبب الأوضاع المعيشية القاسية، فقد كان البعض ينجو من الموت أو المآسي. إلا أن بعد السابع من أكتوبر، تغيّرت الحياة بشكل جذري."
تابع عوكل حديثه فيما آلت إليه أوضاع الناس في غزة اليوم، حيث قال : "إن غزة اليوم تبدو وكأنها عادت إلى "العصر الحجري".
وفي وصفه للوضع الحالي، يقول عوكل: " الحياة اليومية انقلبت رأسًا على عقب؛ لم يعد المواطن يعتمد على وسائل الحياة الحديثة.. فالحياة هنا باتت بدائية، والمرأة تعلمت من جديد كيف تطبخ على النار وتحضر الطعام لأطفالها في ظل غياب كامل لأي شكل من أشكال الحياة العصرية، أما صنبور المياه الذي كان يومًا جزءًا من الروتين اليومي أصبح رمزًا للنسيان، إذ لا توجد مياه ولا كهرباء بفعل الدمار الذي طال البنية التحتية، فشبكات الكهرباء والمياه مدمرة تمامًا، عدا عن قطع الإمدادات من كهرباء ووقود ومياه بفعل الحرب".
وتطرق عوكل لآثار العدوان الهائل على الجانب النفسي للأهالي، وقال :"كل مواطن في الشمال تقريبًا له قصة مع الموت، سواء نجى منه أو شهد صواريخ تسقط على منازل الجيران وتحولها إلى رماد.. ففقدان الأهل والأصدقاء تحت الأنقاض، ومشاهدة الدمار والخراب تركت آثارًا نفسية عميقة، وجعلت الكثيرين في حالة من الصدمة والغضب.. كما أن الضغط النفسي بلغ مداه، وأصبح المواطنون بحاجة ماسة للتأهيل النفسي.
ارتفاع حالات الطلاق في غزة
العلاقات الاجتماعية لم تكن بمنأى عن هذه التغيرات؛ حيث أكد مراسلنا أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الطلاق نتيجة الضغوط النفسية والاجتماعية التي أثقلت كاهل العائلات، حيث تضاعفت معاناة الأسر الكبيرة التي تواجه صعوبات في التحرك وتأمين الأمان لأطفالها، ومع تكرار أوامر الاحتلال بالانتقال من منطقة إلى أخرى، بات السكان يتنقلون من مكان إلى آخر بلا وجهة محددة، بحثًا عن الأمان في ظل حرب لا ترحم.
وختم حديثه بأن الحرب لم تكتفِ بقتل الأرواح، بل حصدت أيضًا كل شيء، حتى الذكريات. غزة أصبحت مدينة لا تصلح للعيش، والناس يعيشون اليوم بين الركام وأطلال الماضي، يحاولون البقاء على قيد الحياة في مدينة دفنت فيها أحلامهم وأمانيهم.
الغزيون في الضفة يعيشون مرارة الفقد والقلق الدائم على ذويهم في القطاع
لم يقتصر الأمر على أهالي القطاع فالآثار النفسية العميقة كذلك امتدت إلى الغزيين المغتربين سواء ممن يعيشون في الضفة أو خارج القطاع، والذين حال الحصار بينهم وبين رؤية أحبتهم لسنوات، ومنهم من تقطعت بهم السبل وكانوا خارج غزة مسافرين وباتوا عالقين بين القلب والروح وحزنهم على بلد لم يعد موجود.. وعلى ذكريات محيت.. وعلى أهل إما شهداء او جرحى او مفقودين..
بعد أشهر من القلق والخوف على أسرتها في غزة، عاشت رائدة صوالحة، المواطنة الغزية المقيمة في الضفة الغربية، واحدة من أصعب تجارب حياتها بفقدان شقيقها. "فقدت أقارب من قبل، لكن فقدان الأخ له طعم مختلف. الفقدان مؤلم، حتى وإن كنتِ تتوقعينه بسبب الأوضاع في غزة، لا يمكن تخيل وقعه إلا عندما يحدث."
تصف رائدة صعوبة ما يجري في غزة قائلة: "الأوضاع في غزة تُنبئ بالإبادة بكل أشكالها، قد تتوقعي أن يصيب أهلكِ شيء، لكنكِ تحاولين إبعاد هذا الخوف عن عقلك حتى لا تعيشيه مرتين."
وبنبرة مملوءة بالأسى، تضيف: "لو أنني معهم في غزة أفضل. رغم المعاناة والحصار والقصف، إلا أنني هنا أعيش غربة قسرية فرضها علينا الاحتلال. أكثر من 10 سنوات وأنا أحلم بالعودة لغزة، لكن الاحتلال يتحكم بكل شيء، من المعابر إلى تفاصيل حياتنا."
فقدان شقيقها: جرح عميق لا يلتئم
"فقدت أخي ولم أره منذ سنوات. هذا الشعور لا أتمناه لأحد. إنه كأس مر وصعب أن تتجرعه، لكنه يمر على شعبنا بأسره." بهذه الكلمات عبرت رائدة عن مشاعر الفقد التي لا تزال ترافقها.
نبض القلق الذي لا يهدأ على الأهل المحاصرين
رغم مأساتها الشخصية، لا يزال القلق على أهلها يسيطر على تفكيرها. تقول: "أتمنى أن أرى عائلتي في غزة مجددًا، ولكنني أخشى أن أفقد أحدًا آخر. الواقع في غزة يصعب تخيله، فالطائرات الحربية تُلاحقكِ في كل خطوة، وأصوات الانفجارات تُحيط بكِ ليلًا، لا تعرفين متى سيصيبكِ صاروخ وأنتِ نائمة."
وتضيف: "قبل عشرة أشهر، كنت أتمنى أن أرى جميع أفراد أسرتي سالمين، والآن، لا أستطيع حتى إكمال الحديث من شدة الألم."
ذكريات الحياة قبل الحرب
بعد لحظات من الصمت العاطفي، استأنفت رائدة حديثها عن الأيام التي سبقت الحرب: "كانت الحياة عادية. العمل في البيت وخارجه، زيارات عائلية، مدارس وجامعات. اليوم، الأمور تبدلت تمامًا، ولكن رغم كل شيء، يملك أهل غزة روح الحياة وإصرارًا على التحدي أكثر من أي وقت مضى."
وتابعت: "الجميع يفكر بما سيفعلونه بعد الحرب. هل سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم، حتى لو كانت مدمرة؟ البعض يقول إنه مستعد للعيش في خيمة، المهم أن يكون في بيته. لا يوجد مكان آمن، حتى مراكز الإيواء ليست كذلك."
الأمل في إعادة بناء غزة
وقالت رائدة: "رغم أنين الحصار وألم المعاناة، يبقى الحلم بالعودة إلى غزة هو ما ينعش الأمل في قلب كل غزي، كل شخص فقد أحدًا أو أكثر من عائلته، ولكن هناك أمل في العودة للحياة الطبيعية، لاستعادة التعليم، ولإعادة بناء غزة. سيكون هناك نقص في كل بيت، ولكن الأمل بالحياة موجود".
العلاقات الاجتماعية في ظل الفقدان
أما عن تأثير الفقدان على أسرتها، تقول رائدة: "الفقدان لم يجعلنا نفكر بأنفسنا فقط. بل على العكس، أصبحنا نفكر ببعضنا أكثر. أنا الآن أفكر كيف يمكنني إسعاد أبناء أخي الشهيد، رغم أنني بعيدة عنهم في الضفة. هذه المرحلة أخرجت منا الطاقات الإيجابية، على عكس ما يهدف إليه الاحتلال من زرع الفوضى والفرقة بيننا."
وبينما تزداد ضراوة الحرب، يظل الغزيون صامدين في مواجهة الأزمات والتحديات. فقد دفنت الحرب أحلامهم تحت الأنقاض، لكن الأمل بالحياة لم يدفن بعد. روح الصمود والتحدي التي يمتلكها أبناء غزة تظل دليلاً على قدرة الإنسان على التأقلم والتحدي حتى في أحلك الظروف. وبالرغم من مشاهد الدمار والخسائر التي عصفت بكل أسرة، فإن أصوات الأمل والاستعداد لإعادة البناء تظل حاضرة في كل بيت، مؤمنة أن الغد يحمل فرصة لعودة الحياة، حتى وإن كانت مختلفة عن الماضي. إنهم ليسوا فقط ناجين من الحرب، بل هم أبطال يحاربون لاستعادة الحياة التي سُلبت منهم، بصمودهم وصبرهم."