منال الزعبي - النجاح الإخباري - لا يهدأ الأطفال إلا إذا ناموا، حين يطفئ الكبار الضوء فيأوي الطفل منهم إلى فراشه ويغفو دون تفكير فهو لا يملك رأس الكبار المثقلة بالهموم، إلا أنَّ الأمر مختلف جدًا بالنسبة للطفلة جوان.

جوان لا تنتظر عودة الضوء من جديد، فهي تعلم أنَّ قدرها الحياة في الظلام، وهي التي فقدت بصرها ونور عينيها في عمر الخمسة أعوام.

ثمانية أعوام في الظلام تحدّثت عنها جوان للـ "النجاح" بقولها: " اليوم عمري 13 سنة، لحد عمر خمس سنين كنت أشوف، ملامح أمي، أبوي، بيتنا، شكلي، صورتي، أخواني، لكن صابني ورم في الدماغ وصارت حياتي مهددة إما استئصال الورم أو أفقد الحياة، ولأنهم أهلي بحبوني أكيد قرروا استئصال الورم، لكن الثمن كان بصري الي راح وما رجع، كانت هاي آخر مشاهد ملونة شفتها بحياتي، قبل ما يحل الظلام الي صار رفيقي".

رحلة من العذاب النفسي يصاب به الإنسان حين يفقد جزءًا منه خاصة البصر، إلا أن إحاطته بالرعاية والعناية والاهتمام تسّرع رحلة التأقلم والتقبل، وهو ما كان، حيث احتوت العائلة ابنتها، وألحقتها بمدرسة خاصة بالمكفوفين لتتعلم لغة بريل.

تتمتع جوان بذكاء وقدرات تفوق جيلها، لذا سرعان ما أتقنت "بريل" كتابة وقراءة وباللغتين العربية والإنجليزية.

مع انتقال جوان إلى مدرسة عادية بدأت رحلة الانخراط بالمجتمع، وتجارب التعامل مع البشر المرهونة  بأخلاقهم، والتي وصفتها جوان على صغر سنها بأنّها "بندول" يتأرجح بين اللطف حد الشفقة، والقسوة حد شعور العجز، لذا ترى نفسها وحيدة وتفضل العزلة على الاحتكاك بالناس إلا من توسّط الحالتين وكان لطيفًا برفق وصادقًا في شعوره وتعامله.

ولمّا قلّ من حولها المتفهمون الذين تحب قربهم آثرت أن تسلك طريق العلم، وقد لبى والدها رغبتها بامتلاك آلة بيركينز للطباعة فصارت رفيقة حكاياتها.

في مخيم صيفي حمل اسم "أنا قادر" نظمه المعهد الفلسطيني للطفولة التابع لجامعة النجاح الوطنية، شاركت جوان وانخرطت بالفعاليات التي بدأت بصناعة الدمى، وتجربة التسوق والطهي وممارسة الألعاب الرياضية والترفيهية والأعمال اليدوية الفنية على مدار خمسة أيام.

في اليوم الأول وبالاعتماد على حواسها، شكّلت جوان ورفيقتها دمية ودار بينهما حوار وقصص حولها، وهو الهدف من وراء هذه الفعاليات حيث تفتح متنفسًا للطفل من ذوي الصعوبات البصرية ليعبّر عما يفكر ويشعر، هنا بدأت جوان تسرد قصة مرعبة لكنّها بالوقت ذاته أطلقت اسم "أنيسة" على دميتها.

كان كلام جوان وتصرفاتها لافت بالقدر الذي سمح لمراسلة النجاح، أن تحاورها فتسمع منها ما أدهشها، من قدرة على تأليف قصص الرعب والخيال، التي تعكس نفسيتها، وتفكيرها، وإحساسها بالوحدة، إلا أنَّها تنمّ في الوقت ذاته عن موهبة رائعة قد تحوّلها يومًا ما إلى كاتبة كبيرة.

سمعت جوان الإطراء فأشرق وجهها، وجعلها تحمل كل ما كتبت من قصص بواسطة طابعة بيركينز لتحملها صبيحة اليوم التالي وتعرضها على الصحفية التي منحتها الاهتمام.

قصص كثيرة بتفاصيل مثيرة تعكس موهبة غضّة لفتاة كفيفة تسعى لأن تبرهن أنَّ الإعاقة ليست بالحواس، محور قصصها الرعب، فهي ترى مالا نراه، وتكشف ببصيرتها نفسيات من تخالط من بني البشر، فتعكسها في قصص تنسجها بخيالها الطفولي البريء، ورغم غرابة ما تكتب تلك الصغيرة، إلا أنَّ الأدب العربي بحاجة ماسة لهذا النوع من الكتابات، سيما إذا خرجت من قلبٍ مبصر، وروح تحيا في الظلام.

تحلم جوان أن تصبح كاتبة كبيرة، وهو حلم يذكرنا بـ"هيلين كيلير" الكاتبة والأديبة الأمريكية التي فقدت بصرها فاتقدت بصيرتها، وتركت 18 كتابًا، والكثير من الإنجازات، إذ أحيطت بعناية ورعاية فائقتين جعلتا منها الأديبة خالدة الذكر التي قالت: "عندما يغلق باب السعادة يفتح باب آخر" فهل يفتح أحدهم باب السعادة للطفلة جوان ويأخذ بيدها إلى حلمها؟!

قصص ممزوجة بالأمل والإدارة والتحديات تبرز الفرق بين من يرى الدنيا بعينيه ومن يرى الدنيا بقلبه.