رحمة خالد - النجاح الإخباري - زقاق ضيق جدًا هو السبيل المؤدي لبطل قصتنا، تصل البيت وتظن أنك أخطأت المكان المقصود، تحسبه مهجورًا لم تطأه أقدام بشر من ذي قبل طرقنا الباب بخجل تحسبًا لما ينتظرنا فإذا برجل زاد الهم من عمره سنين، وبدى عليه العجز، يفتح الباب وكأنما طال انتظاره لمن يشاركه ثقل الكلمات في فؤاده، سألناه عن "غسان هارون" لم نتصور أنَّ حاله بذلك السوء وأن َّهناك من يقبعون في الركن المنسي في هذا العالم.

المواطن "غسان هارون" (50) عامًا من مخيم عسكر لم تسكت رصاصة أصابت عموده الفقري بالانتفاضة الأولى بل حركت أوجاعه لتظل تدوي فيه، فيذكر ما حصل معه حينها " كان عمري عشرين عامًا إبان الانتفاضة الأولى نشطت مع الثوريين واستلمت مخيم عسكر القديم والجديد وخلال المواجهات مع الجنود أصابتني رصاصة في ظهري وأصرَّ والدي أن يعالجني في المنزل كي لا أسجن".

لم تؤثر تلك الرصاصة الكامنة في حياة "هارون" بل تزوج وأنجب ثلاث بنات وولد، أكبرهم رزان (25) عامًا وأصغرهم محمد (11) عامًا، فكان معيلا لعائلته خلال عمله بقطع السيارات في إسرائيل إلا أنَّه مع بداية العام (1997م) ظهرت أعراض إصابته بالرصاصة لتجتمع عليه مصائب الدنيا شاكرًا الله عما أصابه، فيقول: "بعد عام (1997) شعرت بوجع شديد في ظهري لا زال يلازمني وكان هذا الوجع نتيجة الإصابة وبدأت تظهر انحناءة العمود الفقري والضمور بالأطراف حتى أصبحت نسبة العجز لدي  %85".

"هارون" ليس وحده المبتلى في عائلته بل ابنه محمد أيضًا تعرض لحادث منزلي خلف لديه شعر بالجمجمة والذي يسبب شحنات كهربائية تلقى لها علاجًا طيلة السنوات السابقة، أكَّد لهم الأطباء أنَّها تتوقف مع مرور الزمن، فصبر أيوب تجلى في هذا الرجل.

عائلته شاطرته قدره في المرض لكنهم لم يقاسموه الرضى بقدره فاجتمعت زوجته وعائلتها عليه،وألقوا به خارج منزله الذي اشتراه بعسكر، فيذكر هارون " رفعت عليهم قضية إلا أنَّهم حصلوا عليها ومزقوها، ماذا عساني أفعل؟! محمد وشقيقته إيناس لا يزالون معها"، تنهد بعمق يشبه عمق وجعه وقال: "ليس بمقدوري إلا الصمت".

مكث هارون في الجزء المتبقي من منزل والده وهو عبارة عن غرفة عاثت عليها الأيام وممر سقفه من الحديد وحمام لا ينفع حتى لقضاء حاجته، ولا أحد يطرق بابه!

طعامه وغسيله وحتى استحمامه ونومه معاناة يومية يعيشها بأدق تفاصيلها حيث يموت في اليوم ألف مرّة، ويعمل هارون الآن في سوق "قرفص" بالبلدة القديمة لتصليح الإلكترونيات دون استخدام أطرافه لأنها عاجزة عن الحركة الكاملة والدقيقة فقط يحدد العطل ويشير  لصاحب العمل بكيفية تصليحه مقابل مبلغ (50) شيقل يقاسمه إيَّاه أولاده، فهو المعيل لهم.

ومن الجدير ذكره أنَّ هارون يملك عقلًا الكترونيًّا حيث صمَّم لطالب مجس ضوئي يستشعر وجود الأفراد فيعمل بناءً على حركة الآخرين، كما ساعد الكثير من أصدقائه في تصليح وتركيب الإلكترونيات.

فقد اجتمعت ظلمات الدنيا في انحناءة ظهره وأطرافه فهل يجتمع السواد الحالك أيضًا في مقلتيه اللتين طفت عليهما المياه، وصار بأمسِّ الحاجة لإجراء عملية لإزالتها قبل أن يتفاقم الوضا وينقطع عنده آخر خيط من النور!