د.أحمد حماد - النجاح الإخباري - في لحظات لا تُنسى، خيّم الحزن على أوساط العاملين في سلك التربية والتعليم في فلسطين برحيل قامة تربوية وأكاديمية شامخة، هو الأستاذ الدكتور يوسف أبو ديّة، أحد أعلام النهضة التعليمية، ومن أبرز من حملوا رسالة التعليم بصدق واقتدار. لقد ترجّل الفارس، وغاب الصوت الهادئ الحكيم، ولكن أثَره باقٍ في كل زاوية من زوايا المؤسسات التعليمية التي ساهم في بنائها، وفي قلوب من تتلمذوا على يديه، وفي ذاكرة من عرفه عن قرب أو سمع عنه من بعيد.
لم يكن الدكتور يوسف أبو ديّة مجرد أستاذ جامعي، بل كان رجلًا نادر المثال، جمع بين العلم والخلق، وبين القيادة والتواضع، وبين الإخلاص والإبداع. ترك بصمته في جامعة الأقصى التي أسهم في تأسيسها وكان رئيسًا لها، ثم في جامعة غزة، وجامعة فلسطين، حيث تولّى رئاستهما وساهم في تطوير رؤيتهما الأكاديمية والإدارية. لم يكن فقط إداريًا ناجحًا، بل كان رائدًا في صياغة المناهج التعليمية وتطويرها، مشاركًا بفعالية في كل ما ينهض بالمنظومة التعليمية في الوطن، فهو قادر ببساطة شديدة أن يجعل من كل موقف درس، ومن كل كلمة معلومة. إنه باختصار "غوغل" عصره، قبل أن تتطور التكنولوجيا وتجعلنا نحصل على المعلومة بضغطه زر!
تراه حينما تلقاه حتى في خضم الأزمات باسم المحيا هادئ الطبع لا يثور ولا يشط ويشع أملا وثقة بنفسه وبمن حوله. لم يتوان عن تلبية أي طلب من صديق أو غريب. كان رائدا من رواد التربية والتعليم في فلسطين ساهم في النشاطات العلمية والمهنية والاجتماعية مساهمة فعالة وكان حضوره واضحا ومتميزا. كسب ثقة واحترام الجميع للمزايا الخيرة العديدة التي يتصف بها.
د. يوسف أبو دية ، لمن لا يعرفه، فهو شخص بهيئة أستاذ جامعي، يخفي خلف نظارته العريضة نظرة شاخصة، فيها من الهيبة والوقار ما تعجز عنه الكلمات، لكنه كان يكسر كل هذا الستار بمجرد أن يرحب بك ويسألك عن أحوالك، فتجد نفسك مرتبكًا.. وأنت تحب أن تجيب عليه، لأنه سيعلق كل إجابة بسؤال أو تعليق يحتاج إلى سرعة بديهة تضاهي بديهته الفذة.
تمتع الدكتور يوسف بهدوء في حديثه ومشيته مما لم تجده في شخص آخر. طيب القلب سليم السريرة مخلصا لمهنته ومسؤولياته. وكان الدكتور ابو خالد قدوة صالحة للجميع في خلقه وتفانيه في سبيل الجميع والتزامه بالقيم الطبية والاجتماعية النبيل.
عرفته شخصيًا خلال عملي في وزارة التعليم العالي، وكنت حينها أدرّس طلبة دبلوم الإعلام والعلاقات العامة في كلية التربية الحكومية قبل ان تتحول الى جامعة الأقصى بقرار حكيم من الخالد في قلوبنا الرئيس الشهيد أبو عمار، وكنت أزوره باستمرار في مكتبه. كان يشجعنا، نحن الشباب، على مواصلة الدراسات العليا، ويخصّص وقتًا لنقاشات علمية ومهنية محفّزة، خاصة في تخصص الإعلام، الذي كان يرى فيه مستقبلًا واعدًا لفلسطين.
كان د. يوسف أبو دية دائمًا ما يوصيني وزملائي ومعشر الصحافيين، بأن يتبع الصحفي الأسلوب السليم والصحيح في الكتابة، دون تجريح في ظل وجود حرية الصحافة في البلد وأتذكر يومًا أنه قال لنا في اجتماع مع نخبة من الصحفيين بعد انتخابات طلابية ناجحة في الجامعة بحضور الاساتذة د. رباح مفتاح ود. عبد الجليل صرصور وشقيقى د.صلاح حماد ود. نبيل عبود "علّموا طلابكم أننا جميعًا شركاء في الرأي والتنوير والإصلاح والنقد البنّاء من أجل فلسطين." كلمات ظلت عالقة في ذهني، لا تغيب.
عرفت المرحوم أبو خالد، شهم كريم، وأستاذ فاضل، ومثقف غزير المعرفة، ولا شك أن رحيله خسارة لكل من عرفه، وأنا أشعر بالخسارة لأني لم ألتقه قبل وفاته بفترة طويلة بسبب ظروف الحرب في غزة والنزوح المتكرر، وما يصلني من أخباره كان عن طريق الزملاء من الاحفاد والاقارب في الجامعة، مثل الأخ العزيز د. عماد أبو دية أستاذ اللغة العربية في الجامعة او الصديق الطبيب د. أسامة وهذا الأخير فيه من رائحة جده العطرة.
برحيله، خسرنا جميعًا أستاذًا ومربّيًا وإنسانًا نادرًا. ورغم الحزن العميق، فإن إرثه العلمي والإنساني باقٍ فينا، باقٍ في طلابه، في كتبه، وفي المؤسسات التي أسسها وأدارها، وفي كل من حمل عن قرب أو بعد شيئًا من أفكاره وأخلاقه.
سلامٌ على روحه الطاهرة، وسلامٌ على مسيرته النقية. نم قرير العين أيها المربي الكبير، ستبقى حيًّا في ذاكرتنا، وستظل ذكراك نبراسًا يُضيء طريق من يأتون بعدك.