ناشطون - النجاح الإخباري - أبدأ يومي بالاستيقاظ في اللحظة التي يبدأ إبني فيها بالبكاء، فهو لديه موعد لرضاعة 150 سم من الحليب صباحاً، وهو يستيقظ حال شعوره بالجوع، وهكذا الإنسان مُصَمَم لكن نسيان الجوع الذي إعتاده الانسان الحديث أنسى الإنسان ذلك، وهذه الحرب تعيد الإنسان لأصوله الأولى .. كائنا بدائيا . ومن الساعة 6 صباحا حتى 8 صباحاً أجالسه وأقضي وقتي باللعب معه .
في ذلك الوقت، يبدأ الجميع بالتفكير بالمياه الصالحة للشرب، والمياه المخصصة للمنزل والاستحمام، نعتمد بشكل أساسي على بئر مياه لأحد الجيران، أما الكهرباء على خلايا الطاقة الشمسية التي فقط تستخدم للإنارة وشحن الهواتف وللحصول على الانترنت.
وفي الثامنة والنصف أغادر إلى العمل، ونظرا لكوني نازح في منطقة غرب الزوايدة قريباً من البحر، فأنا مضطر لقضاء قرابة 40 دقيقة في الطريق، أمشي مسافه 500 متر على الأقدام، ثم أنتظر مرور عربة يجرها حمار، لتأخذني مسافة 3 كيلو متر بتجاه سوق دير البلح، ومن ثم هناك أركب عربة أخرى لتأخذني من سوق دير البلح إلى منطقة المحطة حيث أعمل .
بطريقة ما، وجد سائقو عربات الحمير طريقة لتنظيم عملهم، فهم يعملون في خطوط سير تنقل من مكان إلى آخر، تسعيرة العربة الواحدة هي 2 شيكل فقط لكن تقضي وقتا طويلا حتى تصل، وتتحمصّ حرفياً في الشمس . لا يوجد سيارات للنقل، تكلفة لتر السولار الواحد 120 شيكل، وبالتالي النقل على الطريق غير مجدي لسائقي السيارات.
في العادة أصف نفسي شخص مُحب للمشي، لكن تلوث الشوارع بالمجاري تجعل من الصعب قبول المشي فيها، وهنا لا أتحدث عن الصرف الصحي إنما اتحدث عن الصرف الصحي محتوياً مواده الخام! معظم الناس في غزة مصابون بإلتهاب الكبد الوبائي لذلك الصرف الصحي هو واحد من المخاطر التي يجب تجنبها تماما .
فعلى جانبي الطريق مئات الخيام التي أصبح لونها بني بعد 9 شهور على نصبها ، في العادة يصنع الناس الخيام من الخشب وقطع القماش، وهي تتسع للنوم فقط، معظم الجالسين داخل الخيمه هنّ النساء، وفي إحدى الزوايا في الخيمة تكون زاوية لتخزين وصناعة الطعام .. وخارج الخيمة يصنع الرجال حماما مكونا من كرسي حمام متصل بحفرة في حال كان لديهم مال كافي لذلك .. هذا الحمام مصنوع من أخشاب وبابه هو قطعة قماش. وفي حال لم يكن بالامكان صناعة حفرة، فيتم صرف هذه القذارات في الشارع مباشرة!
أما الأشخاص الذين لا يمتلكون تكلفة بناء حمام من هذا النوع ، فهم يقومون بإسخدام الأكياس أو الزجاجات البلاستكيية الفارغة أو أواني بلاستيكية .
تبلغ درجة حرارة الخيمة زيادة على الأقل 5درجة الحرارة في بالقارنة مع الخارج ، في هذا الوقت من العام درجة الحرارة تزيد عن 36 درجة مؤوية، ويكون الهواء مشبعا بالرطوبة، لا تنسى أنك عندما تنظر لغزة في خريطة العالم سترى أنها مجرد مدينة على البحر بين صحراء كبيرة تمتد من سيناء إلى النقب ، لذلك هي مدينة صحراوية في حقيقة الأمر.
الناس بتقطرون عرقا بداخلها، لا مجال للإحتمال، في الكثير من الحالات تجد نساء يجلسن في أي مكان يوجد فيه ظل خارج الخيمة . يعتبر " ثوب الصلاة " هو الزي الرسمي للنساء حاليا، لأنه يستر أجسادهن، ومن سهل إرتداءه في ثواني عند مواجهة أي طارئ .
من طبيعي أن تشاهد شاحنه تحمل خزانات من المياه والناس يتدافعون لتعبئة الأواني أو الزجاجات بالمياه لأنهم اذا لم يفعلو ذلك، أو لم يحالفهم الحظ وقد نفذت المياه ، أو لم تحضر سيارة نقل المياه أصلا .. فإنهم سيعطشون حرفيا!!
معظم الناس الذين أقابلهم وأنا على جانب عربة الحمار لمدة 40 دقيقة، أوزانهم إنخفضت كثيرا، ربما خسر كل غزاوي 10 كيلو مترات من وزنه .
سائقو عربات الحمير ومعظم الباعة، لأسباب غير منطقية، يرفضون قبول أي قطعة نقدية ليست جديدة تماماً، حتى العملات النقدية مثل 100 شيكل و 200 شيكل يرفضون قبولها لكونها ليست جديدة تماما، هنا لا أتحدث عن أموال مقطعة أو مهترئة .. لا بل لكونها ليست جديدة فقط.
عندما أصل مقبرة دير البلح أكون قد تجاوزت الزوايدة، ومن مكاني في عربة الحمار أشاهد الناس الذين يحفرون قبوراً للناس الذين قتلو ليلة الأمس، يتم خفر القبور بشكل بدائي، بحضور المقربين، لأنه في العادة العائلة كلها تكون قد قتلت أو أصيبت.. يتم دفن الضحايا جميعهم في قبر واحد، ويتم وضع فاصل بين الذكور والاناث، الأطفال الصغار يتم وضعهم في حضن أمهاتهم الموتى .
في حال كانت العائلة لديها شخص قد مات قبل أعوام طويلة، يقومون بفتح قبره القديم ، وإزاحة العظام التي تحللت .. ويتم وضع القتلى الجدد بحانبهم.
في غرب سوق دير البلح هناك من يبيع المخدرات علناً ، وفي شرق السوق هناك سوق السجائر، والسجائر في الوقت الحالي هي نوعين : السجائر العادية وهي تباع بـ 30 شيكل لكل سانتي متر . حيث يقوم البائع بتقسيم السيجارة الى سانتي مترات، ويمكنك شراء طول السيجارة الذي ترغب به .
أما النوع الثاني، فهو خليط من الأعشاب وأوراق الشجر والقليل من التبغ يتم وضعه في ورق دفاتر الرسم الخاصة بالأطفال ، ولصقه عبر غراء لاصق ويبلغ سعر السيجارة الواحدة 7 شواكل . وهكذا تحولت دفاتر الرسم إلى سلعة، وإرتفع سعرها لأنه قد أصبحت سلعة تباع لمدمني التبغ!
بالنسبة لي، حرب غزة حسمت الجدال حول كون التبغ عادة سيئة أم أنه إدمان .. إنه إدمان بالتأكيد.
بالقرب من سوق السجائر يوجد سوق الحرمية، وهناك سوف تجد كل شيئ ، إبتداء من خزانات المياه وإنتهاء بهاتفك الشخصي! وعلى إمتداد الشارع مئات البسطات . سوف ترى ما لذ وطاب! بدون أي مبالغة، مئات بسطات الخضروات والفواكه والمواد الغذائية المختلفة بما فيها الأسماك والدجاج، لكنها بأضعاف أضعاف سعرها، هؤلاء الباعة هم أنسفهم سكان الخيام في معظمهم، حيث يحصل هؤلاء على البضائع من التجار الذين يستوردونها من الضفة الغربية أو يشترونها من بائعي المساعدات الانسانية، أو أنهم يبيعون المساعدات التي حصلو عليها بأنفسهم .
مع وجود أكثر من 700 ألف نسمة في دير البلح، المدينة التي كان عدد سكانها أقل من 100 ألف فقط قبل الحرب يمكن ملاحظة التوترات بين سكان دير البلح والنازحين، هذه التوترات تعود بشكل أساسي لغياب النظام.
معظم القوانين التي تنظم مجتمع النزوح هي قوانين النازحين أنفسهم، وهي قوانين عرفية تعتمد على القوة والسلطة في فرضها ، لذلك أنت تسطيع أن تفعل ما تشاء طالما أنك تستطيع أن تفعل ما تشاء! .
لا يوجد أي فائدة من وجود عناصر الأمن الذي يتجولون في الأسواق، لأنهم من الواضح انهم عاجزون عن أداء مهامهم . لكنهم أحيانا يكشّرون عن انيابهم .
في منطقة السوق، أكون مضطرا لركوب عربة حمار أخرى، هناك بالقرب من مركز التدريب المهني في دير البلح ، وهو مدرسة كلفت ملايين الدولارات، وهي الآن مركز إيواء يضم مئات النازحين، وعلى يمين الشارع يفترض أن ترى أشجار السرو المعمرة التي يبلغ عمر الواحدة منها قرابة مائة عام .. لكنك لن ترها، حيث تم قطع هذه الأشجار لإستخدام أخشابها في الطهي .
عند وصولي للعمل، تبدأ رحلة الكفاح من أجل إستغلال ما تبقى من اليوم لفعل شيئ ما . يمكن للانترنت أن ينقطع فجأة وهكذا يصبح وجودك بلا داع، ولا تستطيع فعل أي شيئ لحين عودة الانترنت .
من الممكن حصول أي شيئ وتنقلب موزاين هذا اليوم، مثل إجتياح مفاجئ أو قصف مجاور، ومؤخراً قصف منزل أثناء عودتي من العمل، 11 شخصا قتلو، لم تعد قوات الاحتلال تستخدم صواريخ غاية في الضخامة مثلما كانت تفعل في الشهور الثلاثة الأولى من الحرب، بل تستخدم صواريخ تؤدي إلى أزالة جدران المنازل، ويبقى الهيكل قائما ويسمي الناس هذه المنازل " مشلّحة " لإنها " قد شحلت جدرانها " .. عندما قصف المنزل طارت الجثث في الشارع، كان الناس يجمعون بقايا جيرانهم في الأرض.
معظم الناس عصبيون للغاية ومن الصعب التعامل معهم، ويمكن أن تشعر بمدى إحساسهم بأنهم مظلومون، ويمكن لأي كلمة أن تجرح مشاعرهم ، خاصة وأن مطالب بعضهم بسيطة للغاية، وبعضها يمنحك مؤشرات كارثية حول الحال الذي وصلت إليه غزة .