وكالات - رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - لم يظهر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كرئيس دولة احتُل بعض أراضيها، أو كرئيس دولة تتعرض إلى غزو خارجي من قبل دولة أخرى، وحتى أنه في كلمته أمام المنظمة الدولية، لم يطالب بإصدار قرار_مثلاً_ يطالب روسيا بالانسحاب من أرض بلاده المحتلة، بل هو ركز على ما يعتبره أو يدعيه من جرائم حرب، طالب في مواجهتها بتشكيل محكمة حرب خاصة، كذلك طالب المنظمة الدولية بتوجيه عقاب عادل حسب وصفه لروسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.
والحقيقة أن زيلنسكي، رغم إلقائه كلمة بلاده في الجمعية العامة، إلا أن هدف زيارته الحقيقي للولايات المتحدة كان محاولة إقناع الجمهوريين بالموافقة على سياسة الرئيس جو بايدن، التي توصف بأنها "شيك على بياض" لدعم الحرب في أوكرانيا، حيث ينوي بايدن إرسال مبلغ إضافي يبلغ 24 مليار دولار لكييف، ولكن يقف في طريق ذلك الجمهوريون الذين يتمتعون بالأغلبية في مجلس النواب، فيما زيلنسكي يحاول أن يحصل على ذلك الدعم سريعاً، وتحديداً قبل دخول أميركا حمى الانتخابات الرئاسية العام المقبل، خاصة وأن هناك احتمالاً بعودة الرئيس السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض، والذي وعد بوقف الحرب الروسية الأوكرانية في 24 ساعة.
وزيلنسكي، الرئيس الذي ما زال يظهر بمظهر "الفنان المسرحي" الذي لا يحبذ ارتداء الملابس الرسمية، ويرتدي "الكاجوال" حتى وهو في حضرة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهو يركز جل اهتمامه على الولايات المتحدة وبايدن حصراً، ولذا فإن الأمم المتحدة خاصة بجمعيتها العامة لا تبدو أنها مهمة، في نظره، وحتى مجلس أمن المنظمة الدولية، رغم تمتع حاميته أي الولايات المتحدة بحق النقض، إلا أن تمتع خصمه أيضا أي روسيا بالحق ذاته، جعله لا يراهن كثيراً على الأمم المتحدة بجمعيتها العامة ومجلس أمنها، وهو قال بصريح العبارة "بأن العالم لا يمكنه أن يراهن على الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحدود السيادية للدول".
وربما أيضا أن زيلنسكي قاد بلاده وفق إستراتيجية خاطئة راهنت على "قوة" أميركا وقدرتها على فرض مشيئتها، ليس على روسيا فقط، بل وعلى العالم كله، لذا فإن مستوى التأييد العالمي لقضية بلاده لا يبدو انه كبير، وهو يقتصر على الغرب فقط، ولعل بيان قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي قبل شهر دليل على ذلك، والسبب يعود إلى أن العالم أدرك بأن الحرب الروسية الأوكرانية ما هي إلا صورة متأخرة عن الحرب الباردة، أو أنها صراع حول طبيعة النظام العالمي.
ومعظم العالم يفضل نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، أو نظاماً عالمياً أكثر عدالة من النظام العالمي الأميركي الحالي، وقد ساهم في موقف أغلبية دول العالم، التي تظهر الحياد إزاء تلك الحرب، إغلاق زيلنسكي لأبواب الحل السياسي، وإدارته ظهره للمخاوف الأمنية الروسية، ولم يظهر بوادر حسن الجوار، ولم يول التداخل العرقي بين الجارتين الاهتمام المناسب، خاصة وأنهما كانتا _نقصد روسيا وأوكرانيا_ تعيشان ضمن دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي لأكثر من سبعين سنة، وهكذا فإن زيلنسكي خاصة بعد أن أطلق هجومه المضاد قبل 3 أشهر، أظهر إصراراً على حسم الصراع عسكرياً، وهذا ما كرس موقف أغلبية دول العالم، للبقاء على موقف الحياد، وأبقى زيلنسكي كبيدق في يد الرئيس الأميركي.
ويبدو بأنه ليس مستقبل زيلنسكي فقط، هو المعلق بمآل الحرب الروسية الأوكرانية، بل مستقبل بايدن، الذي اعتبرت تلك الحرب بمثابة أهم مراهناته السياسية خلال ولايته الأولى، والتي استهدفت تعزيز مكانة أميركا في النظام العالمي الحالي، وذلك بإعادة أوروبا إلى جيبها الداخلي، وتحطيم روسيا، وذلك قبل التفرغ للصين، لكن على ما يبدو فإن رياح الرجلين لا تجري وفق رغبة سفنهما، فليس فقط أن هجوم كييف المضاد لم يحقق ما كان مرجواً منه وحسب، بل إن التقارير تشير إلى أن سقوط زيلنسكي بات وشيكاً، بعد الخسائر البشرية الفادحة في أوساط الجيش الأوكراني، وبعد خسارته تلك الأراضي التي تشكل نحو ربع أو خمس مساحة أوكرانيا، وهذا ما قاله دوغلاس ماكجريجور المستشار السابق لوزارة الدفاع الأميركية، والذي كان قد كتب على صفحته على موقع "تويتر" مطلع الشهر الحالي بأنه لولا المساعدات الحربية الأميركية لما صمدت أوكرانيا يوماً واحداً.
وزيلنسكي كان قبل إلقائه كلمته في الجمعية العامة قد حضر اجتماعاً لمجلس الأمن، اعتبر فيه أن حق النقض الذي تتمتع به بعض الدول قد دفع الأمم المتحدة نحو طريق مسدود، وكان يقصد بالطبع روسيا، ولكن هذا ينطبق على الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا والصين أيضاً!
أما المهرّج الثاني فقد كان بنيامين نتنياهو رئيس حكومة التطرف اليميني الإسرائيلية، الذي لم تكن هذه أول مناسبة له أمام الجمعية العامة، كما كان حال زميله في التهريج السياسي فلاديمير زيلنسكي، لكن الرجل لم يُظهر أي بادرة خجل، وهو يلقي كلمته أمام العالم، كون قواته المحتلة لأرض وشعب دولة فلسطين، العضو في الأمم المتحدة، كانت ترتكب في تلك اللحظة جريمة حرب في جنين وعلى حدود غزة، بل إنه استغبى العالم كله حين رفع صورة لخارطة "إسرائيل"عام 1948، وكانت هي خارطة فلسطين الانتدابية، بحدودها من البحر إلى النهر، لدرجة أثارت تهكم العديد من الإعلاميين الإسرائيليين أنفسهم، حيث معروف تماماً بأن "إسرائيل ما بين عامي 1948_1967 كانت تشمل نحو 80% من تلك المساحة، أي مساحة فلسطين الانتدابية لكن دون الضفة الفلسطينية وغزة، اللتين تشكلان ما يقارب 6 آلاف كم2، من إجمالي مساحة فلسطين الانتدابية وهي 27 ألف كم2.
ولم يتوقف تهريج نتنياهو عند تلك الحدود، بل هو روج لتطبيع وهمي مع العالم العربي، واعتبر أن التطبيع مع السعودية قد بات تحصيل حاصل، كما أنه واصل نفي الآخر، وعاد لاعتبار م ت ف الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، الجهة التي وقعت اتفاقات أوسلو مع الحكومة الإسرائيلية عامي 1993_1994، عدواً، يجمعها مع إيران، ويتجاهل حل الدولتين، وقام بتحريف الحديث عن السلام، ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى ما بين الإسرائيليين والعرب، ولم يُشر لا من بعيد ولا من قريب إلى أن حكومته تضم عنصريين وتستند على تأييد الإرهابيين المستوطنين، ولا إلى كون ادعاءاته ضد الغير لم تعد تقتصر على الفلسطينيين بكل مستوياتهم وأشكالهم، أي أن موقفه من فلسطين، حين قال إن الفلسطينيين لا يسعون عبر حل الدولتين إلى دولة إلى جوار إسرائيل، بل إلى دولة بدلاً عن إسرائيل؟!
لا يمكن للمهرّج نتنياهو أن يدعم ادعاءه هذا بأي سند، والدنيا كلها تعرف بأن الفلسطينيين بكلهم الوطني، يريدون دولة مستقلة على حدود العام 67، وهي حدود منقوصة أي أقل من حدود دولتهم المقرة من قبل الأمم المتحدة بقرارها رقم 181 للعام 1949، فيما هو أي نتنياهو وكل اليمين المتطرف، أي أركان حكومته هم الرافضون لإقامة الدولة الفلسطينية لأسباب ودوافع عنصرية بحتة، إلى جانب دولة إسرائيل.
ومن يستعرض مسيرة نتنياهو منذ 30 سنة يجد أنه أولاً هو من قاد مسيرة تدمير السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وأنه هو وحزبه اللذان عارضا أوسلو، وحرضا على اسحق رابين حتى تم قتله، بعد توقيعه تلك الاتفاقية، وتحالف طوال تلك السنين، التي كان خلالها واحداً من أهم عوامل استمرار اليمين في الحكم، وبالتالي تعزيز اليمين في المجتمع الإسرائيلي وتبديد اليسار، عقوبة على شراكته في السلام مع فلسطين، وخلال تلك المسيرة، لم يتحالف نتنياهو باستثناء المتدينين المتشددين، شاس ويهوديت هتوراه، سوى مع أفيغدور ليبرمان، نفتالي بينت، وايتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش، أما غير هؤلاء اليمينيين المتطرفين، فلم يكن صادقاً مع أحد، وقد سجل التاريخ كيف خدع بيني غانتس، حين شكل معه تحت ضغط الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حكومة وحدة، في ظل كورونا، ولمواجهة استعصاء متتابع داخلي لتشكيل الحكومة.