وكالات - رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - بعد بضعة أشهر من الآن تدخل الولايات المتحدة الأميركية في حمى الانتخابات المزدوجة الرئاسية والنصفية فيما يخص الكونغرس، وحيث إنها لا تبدو كنزهة بالنسبة للرئيس الديمقراطي جو بايدن، كما كانت عادة تجري انتخابات الولاية الثانية للرئيس، فإن الإشارات الأولى حتى الآن، توحي بأن النظام الأميركي يتوقع فشل بايدن في محاولته البقاء في البيت الأبيض، فيما يسعى لسد الطريق أمام الرئيس السابق دونالد ترامب، وبذلك تتطلع أميركا لرئيس مختلف عن الإثنين، اللذين أظهرا أن الولايات المتحدة تمر بلحظة انتقالية صعبة، أهم سماتها أنها آخذة في النزول عن عرش العالم الذي تربعت عليه منفردة ثلاثة عقود مضت، منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث هي بالكاد، تقود حالياً أوروبا عبر تحالفها معها ضمن إطار الناتو.
فيما روسيا، التي ظن بايدن أنه يمكنه عبر تحطيمها، أن يبقي على زعامة بلاده منفردة للعالم، ما زالت تخوض حربها في أوكرانيا منذ عام ونصف العام بثبات، ولم يتزعزع عرش فلاديمير بوتين، كما لم تظهر روسيا أي علامة تدل على ضائقة اقتصادية، بل بالعكس، تندلع التظاهرات في أوروبا، التي بدأت تضيق ذرعاً بالرئيس الأوكراني ومطالبه التي لا تنتهي، فيما أميركا نفسها، تواجه بشكل متتابع إجراءات زيادة الفائدة، بما يدل على أن الحرب الروسية الأوكرانية تؤثر سلباً على الاقتصاد الأميركي، بسبب تقديم الأموال بشكل متواصل لأوكرانيا.
لم تخض روسيا الحرب العسكرية ميدانياً باقتدار وحسب، وهذا متوقع في حقيقة الأمر، نظراً لتفوق روسيا العسكري على أوكرانيا، واستحالة دخول الغرب الحرب ميدانياً بشكل عسكري، تجنباً لحرب عالمية نووية، لكنها - أي روسيا، تواجه العقوبات الاقتصادية، بما يخفف كثيراً من وطأتها على اقتصادها وعلاقاتها الخارجية، وليس مثال تصدير القمح والحبوب وفق الاتفاق الموقع بين روسيا وأوكرانيا بوساطة تركيا، هو المثال الوحيد، لكن تصدير النفط والغاز الروسي، كذلك مرور الشتاء الأول على أوروبا، مرور الكرام، يعني أن أفق الحرب لا يظهر انتهاءها في المدى القريب، أي أن العالم سيبقى في حالة عدم استقرار، تعيد للأذهان الحرب الباردة، والصراع الكوني في الحقل الاقتصادي، سيبقى مستعراً لمدى غير قصير من السنين، إلى أن يجري تشكيل نظام عالمي جديد، وهذا هو المرجح، ذلك أن النظام العالمي الأميركي آخذ في الأفول والتلاشي.
والحقيقة أن أميركا اتبعت استراتيجية مزدوجة في محاولتها تطويع روسيا واحتوائها، قائمة على التورط في حرب استنزاف داخلية، وذلك لزعزعة نظام بوتين، في محاولة لتشجيع انقلاب ما عليه، يأتي بنتيجته رئيس متعاون معها أو صديق لها، تماماً كما فعلت مع أوكرانيا من قبل، وقائمة كذلك على الضغط الاقتصادي من خلال العقوبات، لدفع رجال الأعمال، الذين أثروا بعد انهيار النظام الشيوعي من خلال تبييض الأموال وأعمال المافيا الروسية، إلى الضغط على النظام السياسي للتضحية ببوتين، وهذا ما يفسر هجوم بايدن الشخصي على بوتين خلال الفترة الأولى للحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن روسيا لم تصمد فقط في الحرب التي ما زالت تديرها وفق استراتيجيتها، وما زالت تحافظ على ما حققته من مكاسب ميدانية منذ بدايتها، وصد الهجوم الأوكراني المضاد، بل إن روسيا بدأت في الأشهر الأخيرة تنتقل من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم.
وعلى الطريق هناك اجتماع قمة بريكس في جنوب أفريقيا، بعد أقل من ثلاثة أسابيع من الآن، حيث يتضاعف نفوذ المجموعة التي تأسست قبل 15 سنة، وتضم كلاً من الصين، روسيا، جنوب أفريقيا، الهند والبرازيل، لدرجة أن 22 دولة أخرى تقدمت للقمة القادمة بطلب عضوية المجموعة الاقتصادية العالمية، التي تنوي إصدار عملة خاصة  للتداول الدولي بدلاً عن الدولار الأميركي.
أما روسيا، فهي إضافة إلى تطوير علاقاتها مع الصين والهند ودول بريكس، وإضافة لعلاقتها الاستثنائية مع إيران وسورية والجيدة مع تركيا، فقد سجلت تقدماً لافتاً على الغرب، أميركا وفرنسا بالتحديد، حين استضافت قبل أيام في بطرسبرغ القمة الروسية - الأفريقية، بالتزامن مع انقلاب الجيش في النيجر على الرئيس الموالي لأميركا وفرنسا، حيث تظهر أفريقيا بشكل متزايد تذمرها من استمرار مظاهر الاستعمار الفرنسي - الأميركي للعديد من دول القارة السمراء، حيث ظهر بوتين مرتدياً عباءة السوفييت، الذين مدوا يد العون لإفريقيا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، في حروب تحررها من الاستعمار الغربي.
واضح إذاً أن كلاً من الصين وروسيا، تواصلان طريق تغيير النظام العالمي، فيما أميركا وأوروبا، بالكاد تواصلان محاولتهما تأجيل لحظة الإعلان عن انهيار النظام العالمي، إن كان من خلال مواصلة دعم أوكرانيا، أو من خلال مواصلة أميركا بالذات، إشغال الصين بتايوان والشرق عموماً، بإطلاق المناورات والتحركات العسكرية مع كوريا الجنوبية وأستراليا واليابان، فيما الصين تتقدم اقتصادياً بقوة نحو الشرق الأوسط، أما روسيا، فإنها تنسج علاقات قوية جداً مع أفريقيا لدرجة أن بوتين الذي كانت أميركا حاولت عزله في قمة العشرين السابقة التي انعقدت في بالي/أندونيسيا، ينوي تقديم طلب بضم الاتحاد الأفريقي إلى القمة العالمية، بما يعزز من مكانة روسيا في تلك القمة التي ستنعقد في الهند والتي تضم أقوى الاقتصادات العالمية.
أما إسرائيل والشرق الأوسط، فإن قراءتهما لما يحدث على الصعيد الكوني متباينة، فدول الخليج ومصر ورغم أنها ما زالت تحتفظ بعلاقاتها الخاصة مع الغرب وأميركا، إلا أن السعودية والإمارات تواصلان التقرب من الصين وروسيا، وأغلقتا إلى حدود كبيرة ثقوب الشقاق مع إيران، وحيث لم تعد الدولتان تتصرفان كدول صغيرة تابعة، أو في جيب أميركا تلقائياً، ولا حتى ضمن محور إقليمي تحاول إسرائيل منذ وقت تشكيله لتتزعمه، في سياق منافستها على النفوذ في الشرق الأوسط مع إيران وتركيا، ورغم أن تلك الدول الثلاث، كانت تشكل مع محور الاعتدال العربي، أي مصر - السعودية والإمارات، أهم أقطاب الإقليم، ورغم أن الدول العربية الثلاث لم تعد تشكل تحالفاً فيما بينها، إلا أن كل واحدة منها تظهر قدرة على التنافس الإقليمي، مع كل من إسرائيل، إيران، تركيا، إن كان على الصعيد الاقتصادي، أو على الصعيد العسكري.
ولعل اهتمام الإمارات والسعودية بتطوير قدراتهما العسكرية بشكل نوعي، خاصة بعد أن خاضتا حروباً إقليمية خاصة في اليمن، ما يؤكد أنهما على وعي عميق بأنه لا يمكن الاعتماد لا على إسرائيل ولا على التحالف معها، لصد الخطر العسكري الإيراني.
بقي أن نشير إلى أن كل نظام عالمي يحمل بين طياته ترتيبات إقليمية مختلفة عن سابقه، فخلال الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا لمعظم دول شرق أوروبا، ظهرت جبهات للمقاومة تقودها الأحزاب الشيوعية، والتي ما أن انتهت الحرب، حتى أقامت أنظمة جمهورية اشتراكية متجاوزة للقوميات، فظهرت الدول الاتحادية، مثل يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفييتي، وما أن انتهت الحرب الباردة وسقطت الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، حتى تفككت تلك الدول الاتحادية، فعادت تشيكيا وسلوفاكيا لتشكلا دولتين متجاورتين، فيما تفكك الاتحاد اليوغوسلافي إلى خمس دول، وكذلك تفكك الاتحاد السوفييتي، وعادت دوله بما فيها تلك المجهرية مثل دول البلطيق، لتشكل دولاً مستقلة، يناصب بعضها روسيا اليوم العداء، انسجاماً مع الغرب.
أما فلسطين، التي لم ترَ النور كدولة مستقلة، لا في الحرب الباردة، ولا في ظل النظام العالمي الأميركي، رغم محطتين مهمتين اقتربتا بها من الإعلان، نقصد بهما، محطة مدريد، التي أقامتها أميركا، لاحتواء الانتفاضة وبعد تورطها في الحرب على العراق، كذلك محطة أوسلو، ورغم أن الرؤساء الأميركيين الديمقراطيين خاصة، كل من بيل كلينتون وباراك أوباما، حاولا جاهدين التوصل للحل النهائي، إلا أن جل ما سعى له بايدن هو تخفيض منسوب التوتر فقط، وهذا لا يحدث بسبب وصول إسرائيل لأبعد مدى من التطرف، لذا يمكن القول، إن نظاماً عالمياً جديداً متعدد الأقطاب، سيكون أفضل لفلسطين وأسوأ لإسرائيل.