وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - يحدث كثيراً في البلدان الديمقراطية أن يهاجم المواطنون رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، أو أحد المسؤولين الكبار فيقذفونه بالبيض أو بالبندورة، أو يحملون لافتات منددة به، أو يصرخون في وجهه.. أو أي شكل آخر من أشكال الاحتجاج والتعبير عن الغضب، أو عدم الرضا تجاه هذا المسؤول أو ذاك.. فهذه ممارسة عادية ومشروعة.
وفي المقابل لا تقوم الشرطة باعتقال المحتجين، ولا تتم محاسبة أحد على فعلته. وعندما حاكم القضاء الفرنسي المواطن الذي صفع الرئيس ماكرون على وجهه كانت التهمة "إعاقة موظف حكومي عن أداء عمله"، وكانت العقوبة السجن بضعة شهور فقط.. بمعنى أن الصحافة والرأي العام تتعامل مع تظاهرات الاحتجاج بإيجابية، ولا تعتبر أنها تنزع الشرعية عن ذلك المسؤول، ولا يتم اتهام أحد بالخيانة والفساد (ما لم يصدر حكم قضائي بذلك).. كما لا يتم اتهام المحتجين بالعمالة وخدمة الأجندات الخارجية.
في بلداننا نفهم موضوع الاحتجاج بطريقة مغايرة ومختلفة تماماً، سواء من قبل السلطات أو من قبل الجماهير؛ فإذا خرجت تظاهرة احتجاج حتى لو كانت صغيرة فإن السلطة توجه لائحة اتهام بحق المحتجين تضمن دخولهم السجن، طبعاً بعد تعرضهم للضرب والتنكيل في الشارع.. وفي المقابل يعتبر الرأي العام أن المحتجين دوماً على حق، وأن السلطة تمثل الباطل!
وإذا كان الاحتجاج موجهاً إلى قائد بعينه فإن هذا القائد سيفقد شرعيته على الفور!
وهذا الشكل المرَضي في فهم الاحتجاج والحق في التعبير ناجم عن مرض نقص الديمقراطية، أو هو من أعراضه.. لا فرق.. فلا السلطة تتفهم حق المواطنين في الاحتجاج والاعتراض، ولا المجتمع معتاد على الحوار والاختلاف والتعددية، ولا الجماهير تتفهم طبيعة السلطة (أي سلطة) بتركيبتها، وإمكانياتها، واشتراطاتها، والتقييدات والتحديات التي تواجهها.. ولا تتفهم الطبيعة البشرية للقادة والمسؤولين.. الجماهير دوماً تريد حكومة نقية ونظيفة وقادرة وفاعلة وتؤدي مهامها على أكمل وجه.. وتريد المسؤول بلا أخطاء ولا عثرات.. وهذا حق مشروع للجماهير.. وذلك واجب على السلطة.. وهناك يكمن التناقض؛ أي بين ما هو مفروض وما هو ممكن وواقع.
في جنين، وبعد هجمة احتلالية غاشمة واستشهاد عدد من المواطنين وتخريب الشوارع وهدم البيوت، وتشريد الناس.. قام وفد من قيادات فتح بزيارة مخيم جنين والمشاركة في تشييع الشهداء.. وأثناء إلقاء محمود العالول كلمته التأبينية بدأ أحد المواطنين بالصراخ في وجهه ومطالبته بالسكوت، ما فتح المجال لعدد آخر للصراخ والتعبير عن الغضب واللوم والعتاب في وجه قادة فتح.. ليتحول المشهد إلى نوع من الفوضى والهتافات المطالبة بطرد قيادات فتح.
ما حدث كان يمكن اعتباره حدثاً عادياً، وشكلاً مشروعاً للاحتجاج، فمن حق الجماهير أن تعبر عن رأيها، ومن واجب القيادات أن تستمع لها وأن تتفهم غضبها.. لكن وسائل إعلام معينة استغلت الحدث، وقامت بتضخيمه، وتحميله أكثر مما يحتمل لأهداف سياسية غير بريئة.
في داخل فتح انقسمت الآراء بين من رأى في الحدث شكلاً مشروعاً للاحتجاج، مقللاً من شأنه، ومن رآه مؤامرة تستهدف فتح، والتشكيك بشرعيتها، تمهيداً لسحب البساط من تحتها، أي برؤية تضخيمية.
شبكات الإعلام التابعة لحماس والإخوان المسلمين (ومنها الجزيرة) تناولت الحدث بطريقة انتهازية، وبدأت تتحدث عن نهاية فتح، وسقوطها شعبياً، وأن الجماهير طردت قياداتها، وأن هؤلاء فاسدون وخونة..
بعد يومين عاد وفد أكبر من قيادات فتح ومسؤولون بارزون في السلطة إلى مخيم جنين، ليجدوا أمامهم استقبالاً شعبياً مرحّباً، وقد كان في مقدمة المستقبلين أبناء كتيبة جنين وعدد من المسلحين والمواطنين، ومنهم ذوو شهداء.. في خطوة اعتبرت أقوى رد عملي على الموجة الإعلامية المحمومة والممنهجة والتي تستهدف فتح والسلطة لأغراض مشبوهة بات يعرفها الجميع.
ولكن هل هذا يعني نهاية الأزمة؟ الجواب لا..
صحيح أن المشكلة نفسها قد حلت وتم احتواؤها من قبل الحكماء والشرفاء الحريصين على وحدة الصف وعلى درء أي فتنة، والتفرغ لمجابهة الاحتلال.. ولكن على قيادات فتح أن تدرك أن ما حدث أكثر من مجرد إنذار.. (بعيداً عن تدخلات حماس وسلوكها المريب واستهدافها المشروع الوطني..)، عليهم أن يدركوا حجم الغضب الشعبي واللوم والعتاب المحتقن في عقول وأفئدة الجماهير؛ بسبب غياب فتح عن المعركة، وعن تأخرها في مواكبة الأحداث، وعن تقدم الجماهير عليها.
سيقول البعض إن فتح حاضرة، وبقوة، بدليل أن العدد الأكبر من الشهداء والأسرى والمشتبكين هم من أبناء فتح.. وهذا صحيح، لكن السؤال الذي يعتصر قلوب الجماهير بحسرة، وخاصة جماهير فتح: أين دور قيادات فتح؟ وأين حضورها الرسمي؟ والإعلامي؟ ولماذا تمسكها بالسلطة؟ وأين هي من الخطاب الثوري المقاوم والممارسة الثورية في الميدان التي بسببها نالت مشروعيتها؟ ولماذا تصر على إبراز بعض الوجوه التي باتت محروقة ومكروهة من قبل الشارع؟ أسئلة كثيرة ومرعبة تقف خلف سدود "الخوف من الفتنة"، و"الحرص على الوحدة الوطنية"، و"الخشية من الدور المرتقب لحماس"، و"الأولوية لمواجهة الاحتلال".. وغيرها من السدود التي تحمي "مؤقتاً" قيادات فتح من الشارع الفتحاوي نفسه.
صرخة ذلك المواطن في وجه قيادات فتح فتحت ثغرة في السد، ستتبعها صرخات وصرخات، وإذا لم تجب فتح عن كل هذه التساؤلات ستتسع تلك الثغرات، وسينهار السد.
وإذا انهار السد، ستسارع إسرائيل إلى إخراج مشاريعها الجاهزة من الأدراج.. وهي مشاريع كارثية ونكبوية.. يعني على خصوم فتح والمراهقين السياسيين أن يتذكروا مقولة "أُكلت يوم أُكل الثور الأسود".
على فتح أن تدرك أن الأمور ليست على ما يرام، وأن حالنا بائس وخطير، وأن الجماهير محتقنة وغاضبة.. عليها أن تسارع إلى عقد المؤتمر الثامن، شريطة ألا يكون نسخة عن سابقيه، بحيث تعود إلى كادرها الأصيل (وليس الموالي)، وإلى خطابها الأصيل، وإلى نهجها المقاوم، وأن تنظف نفسها من الطحالب التي تسلقت عليها في سنوات ضعفها.
وما زال الأمل بشعبنا كبيراً.. ولكن، التاريخ لا يرحم، والسياسة لا تقبل الفراغ.