وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - مع صعود كل تنظيم، يبدأ بخوض تجربته العسكرية والسياسية الخاصة بمعزل عن التجارب النضالية السابقة، وفي كل مرة نبدأ من جديد، لا يرغب أحد بالاستفادة من تجارب الماضي، فليس من شيمنا أخذ العبر، وتقييم الدروس، يظن البعض أن النضال الفلسطيني بدأ معه فقط.. لأننا نتعامل مع «المقاومة» بتقديس، ونهج تبريري، ولا نقدم لها أي مساءلة أو نقد.. فهذه من المحرمات.. نتعامل مع شعبنا كحقل تجارب (وبالذات في غزة)، فغزة بالنسبة للبعض مجرد ميدان للمعارك، وليس فيها مليونا إنسان!
عندما خاضت «حماس» الجولات الأولى من الحروب العدوانية أيّدناها بكل قوة، ولم يقل أنصارها أن ذلك كان تهوراً ومغامرات غير محسوبة، رغم ارتفاع أكلافها المادية والبشرية والمعنوية، وعندما لم تشترك في آخر جولتين من الحروب العدوانية، قال أنصارها: إن ذلك حكمة منها، وحرص على مقدرات الشعب، وتقدير دقيق لموازين القوى، وتجنب لخوض حرب خاسرة سلفاً!. وهذا يضعنا أمام أسئلة محيرة: هل كانت «حماس» آنذاك تفتقر لهذه الحكمة، ولم تقدّر الأمور جيداً، واليوم نضجت تجربتها وصارت حكيمة؟ وهل على «الجهاد» خوض نفس المسار والوصول إلى نفس النتائج؟
إذا كانت الصواريخ هي الأسلوب الرئيس والمعتمد في المقاومة، فلماذا لا نقيّم هذه التجربة بروح وطنية مسؤولة؟ مع الإقرار بأن المقاومة أنجزت تطويراً مهماً ومذهلاً على الصواريخ، في الفاعلية، والمديات، ودقة التصويب، وأنها جعلت منها أداة ردع مهمة، وأحد الشواهد الرائعة على ديمومة النضال ورفض الذل ومقاومة الاحتلال، وإدامة الصراع.  
ولكن بالنظر إلى الجولات الست الماضية، سنجد أولاً أن أغلبها اندلعت كرد فعل من المقاومة على اغتيال شخصيات قيادية (أما استشهاد المواطنين العاديين، وجرائم إسرائيل السياسية والميدانية فلا تستوجب حرباً!). وثانياً: أن سقف مطالب المقاومة للتوصل إلى تهدئة كان يهبط في كل مرة، من المطالبة برفع الحصار، وميناء، ومطار، ومعابر، ومساحة الصيد.. حتى وصلت آخر مرة إلى المطالبة بوقف اغتيال القيادات والكوادر. وثالثاً: أن المقاومة أخفقت في ربط معاركها بالبعد السياسي، أي وضع اشتراطات ذات صبغة سياسية (وقف الاستيطان، تهويد القدس، إجراءات الضم، الدخول في مفاوضات سياسية..). ورابعاً: قدمت للعالم صورة خاطئة ظهر فيها الإسرائيليون كضحايا مدنيين مرعوبين من الصواريخ. وخامساً: وبعيداً عن المقارنات غير العادلة في عدد الضحايا وحجم الدمار (على الجانبَين) حتى في سياق هدف خلق الرعب، أو «توازن الرعب»، سنجد وللأسف أن عدد سكان مستوطنات غلاف غزة قد ازداد من 42 ألفاً إلى 55 ألفاً ما بين عامَي 2009، 2019، والمفارقة المحزنة أن الإسرائيليين نظموا حفلاً غنائياً صاخباً حضره عشرات الألوف في إحدى حدائق تل أبيب في مساء اليوم الثالث من الحرب.
وهنا يجب أن نتساءل عن التراكمات السياسية والنضالية التي بنتها تلك الحروب، ومن ثم كيف نعمل جميعاً على ربطها بالسياق النضالي الفلسطيني ماضياً ومستقبلاً، وكيف نحول دون جعلها مجرد مكاسب حزبية، أو لتجييرها لمصالح أطراف خارجية. وكيف نبني إستراتيجية مقاومة شاملة، بحيث يتفق عليها الجميع، فصائل وقوى وجماهير، وتراعي قدرات الشعب وإمكانياته، وتؤسس لـ»تقدير موقف» بشكل عقلاني يراعي نقاط الضعف والقوة لدى جانبَي الصراع، ويأخذ بالاعتبار كل ما يتعلق بإدارة الصراع من حسابات ومعادلات سياسية وميدانية.
وختاماً، يجب أن ننظر بإجلال وإكبار إلى «الجهاد الإسلامي» ودوره البطولي، فهذا التنظيم الفدائي ومعه سائر الكتائب المسلحة من جميع الفصائل أدار المعركة بشجاعة واقتدار، وسطّر صفحة جديدة في سجل الفداء، وتاريخ النضال الفلسطيني، وقدم خيرة قياداته وشبّانه على مذبح الشهادة، بدءاً من الشهيد فتحي الشقاقي، وصولاً إلى الجندي المجهول الذي يحمل روحه على كفه وهو يلقم الصاروخ، ويربت عليه قائلاً: سلِّم على بلادي.. ولكن اشتراطه الوحيد لإنهاء المعركة بدا غريباً، فكان أجدى به اشتراط وقف قتل المدنيين ووقف قصف البيوت، وهو مطلب عادل ومشروع ويضع إسرائيل في الزاوية الحرجة، فإذا قبلت به ستعمّق من مأزق الحكومة الإسرائيلية، وتبرز فشلها، وإذا رفضته ستفضح نفسها أمام العالم. وهذا أفضل وأقوى من شرط وقف اغتيال القيادات، فالقائد الذي سار على هذا الدرب يعرف أنه منذور للشهادة، وهو ليس كمن اختار مغادرة البلاد ومتابعة النضال من فنادق الدوحة وإسطنبول!
شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج (ومعنا كل الشعوب العربية) لم يتوقف يوماً عن دعمه وإسناده للمقاومة، وهو مستعد دوماً أن يشكل حاضنة دافئة لها، وأن يضحي من أجلها بأغلى الأثمان.. ولكن هذا يتحقق وبلا حدود فقط حين تكون المقاومة موحدة، ويكون هدفها وطنياً فلسطينياً واضحاً لا لُبس فيه، وليس لخدمة مشاريع أيديولوجية عابرة للحدود، وليس فيه تدخلات أجنبية، ولا يخدم أجندات سياسية لقوى إقليمية تتعامل مع القضية الفلسطينية كورقة مساومة ولتقوية شروطها التفاوضية، وتحسين مكانتها الإقليمية، ولا يأتي في سياق الصراع الداخلي والتنافس الحزبي.