وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - لأول مرة في تاريخ كرة القدم، تستضيف دولة عربية بطولة كأس العالم، وربما هذا الأمر شكل صدمة لبعض الدول الغربية، رغم أن هذا الأمر متفق عليه من 12 سنة، ويبدو أن بعض تلك الدول كان يراهن على فشل قطر في تنظيم المونديال، وبالتالي التأكيد على حكمهما المسبق: شعوب العالم الثالث متخلفة، وليس لها قدرة على تنظيم حدث عالمي بهذا المستوى.. الشعوب العربية متخلفة، وما زالت تتنقل على الجِمال والحمير.. وبالمناسبة هذه النظرة الاستعلائية من قبل الغرب لا تقتصر على العرب وحسب، بل تشمل أي دولة خارج أوروبا وأميركا، فقد لاحظنا استغرابهم واستهجانهم من فوز دولة مثل اليابان على ألمانيا.. والمسألة ليست بمعيار تاريخ وخبرة الدول في اللعبة؛ فكرة القدم من منظار الغرب هي اختراعهم وأيقونتهم ودليل تفوقهم الحضاري على سائر بلدان العالم! الاستثناء الوحيد هنا هو بلدان أميركا اللاتينية.
وقد أراد الغرب (الاستعماري) احتكار كرة القدم باعتبارها من ضمن منظومة الحداثة العالمية، بالإضافة إلى القيم الغربية التي تريد فرضها على العالم، والتي تضم منظورهم الخاص للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات.. والتي تطبقها بازدواجية مكشوفة، وبمنطق عنصري، فحقوق الإنسان مصانة داخل الدولة الاستعمارية، ومستباحة في الدول التي تستعمرها! وقد أضيفت إلى تلك المنظومة قيم جديدة وبرؤية ومعيار غربي مثل مفهوم الجندر، وحقوق المثلية.
ومرة ثانية، نؤكد على أهمية تلك القيم، وأنها من حيث المضمون تشكل نتاج الخبرة الإنسانية وروحها الحديثة، ولكن المشكلة الأولى في المعايير المحددة والتأويل الخاص الذي يريد الغرب فرضه على العالم، والثانية في ازدواجية المعايير والانتقائية في تطبيقها، والثالثة - وربما الأهم - أن الغرب يعتبر نفسه مركز الحضارة الإنسانية، وينظر إلى كل من يتعارض مع مفاهيمه على أنه متخلف وهمجي وإرهابي.
فمثلاً، لاحظنا كيف أقحم الغرب موضوع "المثلية" على بطولة رياضية، أي في ساحة غير ساحتها، وقد تعدى الأمر طرح القضية بوصفها جزءاً من حقوق الإنسان إلى الترويج لها بدعاية مبالغ بها؛ بهدف تعميمها، أو بهدف إحراج قطر وإظهارها كدولة خارج ركب الحضارة ومعادية للحداثة!
وبالعودة لادعاء الغرب احتكار كرة القدم، ماذا لو أرادت الصين والهند الدخول إلى هذا المضمار بشكل جدي، وبكل ما تمتلكانه من قدرات بشرية ومادية؟ وماذا بشأن الدول العربية والإفريقية التي طورت قدراتها الكروية بشكل لافت ومبهر؟ هل ستظل نردد مقولة لاعبين كبار ولاعبين صغار؟ هل سيظل الرجل الأبيض يشعر بصدمة حضارية كلما تجرع هزيمة كروية؟
وبالعودة إلى ازدواجية المعايير، ووقاحة بعض الدول الأوروبية في تعسفها بالكيل بمكيالين، سنأخذ مثلاً القضية الفلسطينية وحرب أوكرانيا، وحرية التعبير في كل ما هو ضد روسيا، والصمت المطبق ضد إسرائيل، التركيز على حقوق المثليين وإغراق سفن اللاجئين الهاربين من حروبهم في عرض البحر.. هذه ازدواجية مفضوحة. ولكن في المقابل علينا أن نقر بأننا كشعوب عربية ومسلمة نمارس "الازدواجية"، وإن كان ذلك بشكل مختلف، فنريد من دول وشعوب العالم احترام عاداتنا وقيمنا وقوانيننا عندما يأتون بلادنا.. ولكننا نريد منهم احترام قيمنا وعاداتنا عندما نكون في بلادهم، بل وننكر عليهم قوانينهم وقيمهم!
قضية أخرى يثيرها المونديال: بأي معيار نشجع فريقاً معيناً؟ ولماذا ننحاز لفريق دون آخر؟
ما أشاهده (وهذه مجرد ملاحظة شخصية) أن كل شعب يشجع فريقه الوطني، وهذه مسألة طبيعية ومشروعة ومتوقعة، وعندما يتابع المتفرج مباراة بين فريقين آخرين سيشجع الفريق الذي سيكون فوزه في مصلحة بلاده، من حيث النتيجة وفرص التأهل، أو سيشجع الفريق الذي يلعب بطريقة أجمل وأكثر متعة.. ولكن العرب بصورة عامة لهم معايير مختلفة في التشجيع والمؤازرة: المعيار السياسي أولاً.
لنا كل الحق في تشجيع الفرق العربية (فنحن في الأصل أمة واحدة)، ومن الطبيعي أن نشجّع الدول التي تؤيد قضيتنا العادلة، ولنا الحق في تشجيع منتخبات الدول الفقيرة ضد الدول الغنية، والدول التي استُعمِرت، ضد الدول التي استعمرتها.. ولكن البعض يذهب بعيداً في ذلك، بمبالغات فيها نكهة أيديولوجية وتعصب شوفيني، وقد لاحظنا تعليقات لمتابعين يصورون الأمر وكأنه انتصار للعروبة وللإسلام! إضافة إلى تعليق المعلقين الرياضيين بطريقة توحي وكأننا في حرب! المسألة برمتها مجرد لعبة كرة، وشعوب ومنتخبات الدول الأوروبية حالياً لا علاقة لها بماضي وتاريخ دولها الاستعماري.. ومن المفترض أن الرياضة عامة وكرة القدم خاصة توحّد العالم وتقرِّب بين الشعوب، وتستبدل العداوات والمواجهات الدموية بمواجهات رياضية سلمية تسودها الروح الرياضية، بمتعة الفرجة والمتابعة دون تعصب وكراهية، باعتبارها نشاطاً إنسانياً عابراً للهويات.
فيما يتعلق باستضافة قطر للمونديال، المسألة ليست أموالاً طائلة ومصاريف باهظة، كما يروج البعض، فما تميزت به قطر وشرّفت به وجه العرب حُسن التنظيم والإدارة، وحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، وقدرتها على فرض شروطها بالشكل الذي يُظهر ثقافة وقيم العرب والمسلمين والمشرقيين بشكل عام، وإثباتها أنها كانت على قدر التحدي.
ملاحظة أخيرة: تاريخياً، استخدمت الدول الاستبدادية أسلوب إلهاء الشعوب بتقنيات متعددة منها كرة القدم، بهدف خلق "المواطن المستقر"، الذي يتعايش مع الظلم والفساد والدكتاتورية.. هذا صحيح، وهذا الوجه الآخر للرياضة، أو أحد أعراضها الجانبية، فحتى الدواء الشافي تكون له أعراض جانبية، المهم كيف نتعامل مع الرياضة وكرة القدم ونستمتع بها (لعباً ومشاهدة)، وكيف نطورها.. ونجعل منها أحد عناصر القوة الناعمة، بما يخدم قضايانا الوطنية والإنسانية.
شكراً لقطر، وللفرق العربية المشاركة، وللجمهور العربي المعادي للتطبيع، وشكراً لكل المنتخبات التي أمتعتنا بأدائها المبهر.