د.رائد الدبعي - النجاح الإخباري - تمتد مسيرة الاضراب عن الطعام تعبيرا عن رفض ظروف الاعتقال ومطالبة بتوفير ظروف معيشية كريمة، أو تحقيق مطالب المعتقلين بدءًا من إيرلندا قبل المسيحية مرورًا بالهند والحركات النسوية في امريكا وبريطانيا والجيش الجمهوري الايرلندي والمنشقون في كوبا، والسجناء السياسيين في تركيا، والمعتقلين في سجون إيران، الى فلسطين، التي قدمت مجموعة من أبناء حركتها الأسيرة شهداء في معركة " الأمعاء الخاوية" منهم عبد القادر أبو الفحم وراسم حلاوة وعلي الجعفري ومحمود فريتخ، وحسين اعبيدات, إذ نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية منذ إضرابها الأول في سجن الرملة بتاريخ 18/2/1969 مرورًا بعشرات الإضرابات الجماعية المسنودة بدعم شعبي، وتغطية إعلامية وإرادة جماعية من انتزاع بعض المطالب والحقوق، فيما لا تزال معركة الإرادة مستمرة في ظل استمرار تمسك الاحتلال وإدارة سجونه بعنصريتها وسياساتها الفاشية ضد المعتقلين الفلسطينيين.

برزت خلال السنوات العشر الماضية حالات نضالية فردية، قررت أن تنتزع حريتها أو مطالبها المشروعة عبر خوض إضرابات فردية عن الطعام، وصل آخرها إلى 141 يومًا من الاضراب عن الطعام كما في حالة الأسير البطل هشام أبو هواش، قبل أن تذعن إدارة السجون لحقه بالافراج.

إن هذه الحالات النضالية الفردية، وعلى الرغم من كونها توحد شعبنا في الخارج خلف مطالبهم العادلة، وتعيد قضية الأسرى، باعتبارهم مقاتلين من أجل الحرية إلى صدارة الحدث، وإلى واجهات الإعلام المحلي والعالمي، وتؤنسن النضال الفلسطيني، عبر إظهار دور الزوجة والأبناء والأمهات والآباء والأخوة في مسيرة الوجع والجوع، إلا أنها في ذات الوقت تفتح جرحًا غائرًا في الجسد الفلسطيني، وتشي بحجم الخلل الذي يعتري دور مختلف القوى الرسمية والأهلية والفصائلية في القيام بواجباتها تجاه الأسرى بشكلٍ جمعي ومؤثر وفاعل، إذ أن قرار الإضراب الفردي عن الطعام للأسرى هو أحد أصعب القرارات التي يتخذها الأسير من داخل زنزانته، وهي تعني قرارًا فرديًا بانتزاع الحياة من بين أنياب الموت، والولوج للنور باختراق فردي للظلام، والسير في الدرب الأكثر إيلامًا، وقسوًة، ووجعًا، ليس للأسير وحده، إنما لعائلته ومحبيه، فمن منا لم ينكسر قلبه لصورة أبناء الأسير هشام أبو هواش، ودموعهم أمام سرير والدهم الذي اقترب لولا قدر الله وعزيمته الفولاذية أن يتحول إلى قبر يواري جسد الشهيد.

علينا جميعا، قوى سياسية وحزبية ومؤسسات أهلية وأكاديمية وبحثية وموجهي رأي عام، أن نقف بعمق ووعي أمام تجارب الإضرابات الفردية، وأن نقيم آثارها وثمارها بعقلانية وحكمة، وأن نبحث عميقًا في الأسباب الحقيقية التي تحذو بأسرانا لانتهاج هذا الأسلوب النضالي دون غيره، هل هو عدم الثقة بقدرة الخارج على إسناد حقهم، أم هو تعبير عن تراجع العمل الوطني المشترك داخل السجون، أم هو رسالة سياسية بضرورة إعادة قضية الأسرى إلى رأس أولويات القيادة والفصائل والقوى المجتمعية، إذ أن مقتضيات النضال الوطني الطويل كما هو الحال في نضال شعبنا الفلسطيني، ولكي تكون مثمرة ومؤثرة، تتطلب إبراز نموذج الشعب البطل، وليس القائد البطل، وتتطلب العمل بروح الفريق الواحد، وليس الزعيم الواحد، وتتطلب تضافر كل الجهود، لكي نحقق خلاصا جماعيًا، لا فرديًا، ولكي نتخلص من السجن لا أن نحسن ظروف الزنزانة، فمن حق أسرانا جميعًا الإداريين وغيرهم أن نقود من أجلهم نضالاً ميدانيًا وسياسيًا وقانونيًا، لا أن نجعل ثمن حرية كل واحد منهم أن يتكئ على كتف الموت، وأن يعاني هو وأسرته آلامًا مبرحة قبل أن ينال الحرية، إذ أن معظم حالات التضامن الشعبي مع أسرانا المضربين عن الطعام فرديًا تبدأ بعد أن يدخل الأسير مرحلة الخطر الفعلي على حياته، وبعد أن يصبح الاسير ووضعه الصحي خبرًا عاجلاً عبر وسائل الإعلام، وهو أمر مؤسف ومحزن بشدة، يتطلب أن يقوم كل منا بدوره ويقف أمام مسؤولياته، بما في ذلك توسيع مساحة ومدى وتاثير المقاومة الشعبية تحت شعار حرية الأسرى، وإدراج قضاياهم كأولوية قصوى وبند ثابت لدى القيادة في لقاء مع الاحتلال، فإيجاد حل جذري لجريمة الاعتقال الإداري أهم مليون مرة من المطالبة بزيادة أعداد حملة بطاقات ال BMC وال VIP, وإدراج تحسين حياة أسيراتنا وأسرانا داخل السجون يجب أن تدرج في أي مفاوضات بين حماس وإسرائيل بالإضافة للأسرى الذين سيفرج عنهم، والحفاظ على موقف القيادة الفلسطينية من التمسك برواتب الاسيرات والاسرى، وتقديم كل الدعم والمساندة لهم ولذويهم، يجب أن يبقى ثابتًا وطنيًا، كما أنه من المطلوب مغادرة ثقافة الشعارات العرمرمية، والخطب النارية الفارغة، والتهديدات الفيسبوكية، إلى فضاء العمل المشترك، والمؤثر، والهادف، والعقلاني، كما أن ذلك يحتاج الى حوار جدي داخل الحركة الاسيرة في سجون الاحتلال، لتقييم تجربة الاضرابات الفردية، بما لها وما عليها، وما يتطلبه الظرف الراهن من خطوات فاعلة، تساهم في دعم صمود ونضال رسلنا نحو الحرية، أسرانا البواسل.

علينا أن نتذكر جميعًا أنه وعلى الرغم من أن لكل أمة ابطالها، ورموزها، ولكل ثورة طلائعييها، إلا أن التاريخ لم يسجل في يوم من الأيام انتصار أمة من نير الاحتلال على يد شخص واحد مهما علا شأنه وذاع صيته، وعظم فعله، لأن المخلص الحقيقي هو العمل الجماعي، والخطوات المدروسة، فالخلاص من الاحتلال يكمن في داخل كل واحد فينا، ومن ايماننا وقدرتنا على العمل المشترك كشعب فلسطيني .

ختاما أود أن أذكر أن الأسير القائد ناصر ابو احميد يمر كل ثانية بظروف صحية قاسية للغاية، فهل سننتظر لكي نلعن السجان، ونصف فاشيته، ونستذكر بطولة ناصر البطل بعد ان نفقده لا قدر الله.