نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - ربما أن أكثر شيء يمكن استذكاره، ونحن ننظر لمجرى التاريخ المضطرب، هو الصراع الأبدي بين الفرد والجماعة الذي يمكن سحبه على صراع الجماعات فيما بينها بحجج مختلفة، لكن جوهرها ادعاء كل طرف بتمسكه بالصالح العام. هكذا كان بحث الفرد عن الأفضل، أي صالحه العام، يشكل جوهر اشتباكه مع الآخرين الذين بدورهم لديهم ما يقولونه عن هذا الصالح العام، أي صالحهم العام. الصراع بين الفرد والجماعة أخذ أشكالاً مختلفة وترجم نفسه في سياقات متعددة، وكانت له نتائج متنوعة. الأهم منها كان إصرار الفرد على تحقيق ذاته، وتثبيت المعادلة التي باتت راسخة بأن الجماعة عبارة عن مجموعة أفراد. إن إسقاط هالة مقدسة على الجماعة من خلال أصحاب النفوذ، منذ التشكيلات الأولى للتجمعات البشرية، كان يهدف إلى مصادرة الإرادات الحرة للأفراد لصالح سلطة عليا لا تكون برضاهم عادة. وكان صراع الأفراد من أجل إقرار حقوقهم هو جوهر صراع الأفراد، ليس فيما بينهم، ولكن مع الجماعة التي تفترض السمو الخاص بها. كان يستخدم الدين والمعتقدات والنفوذ العشائري، والتبرير الفطري، من أجل تثبيت حقوق البعض على حساب الكل، أو من أجل تبرير حكم الأقلية للأكثرية. إن هذا الصراع من أجل تثبيت حقوق الأفراد كان بطابعه فردي مثل كل الأشياء العظيمة في التاريخ، وكان نتيجة اجتراح معجزة فردية وكفاح ذاتي، يصار عادة إلى تقديمه بوصفه منجزاً جماعياً. وهذا أمر مختلف.
هذا الصراع هو الذي أوجد مفاهيم مثل الحرية والحق والاستقلال. ولم يكن يمكن البحث عن سبل الحكم الأفضل لولا هذا الصراع. أي لولا إصرار الفرد على تحقيق ذاته مقابل الجماعة. إن مثل هذا الإصرار جعل حرية الفرد والاعتراف بهذه الحرية جوهر تلك العلاقة بين الكيانات والجماعات وبين أفرادها. ودون تحقيق هذه الحرية، وهذا الاستقلال للأفراد، ما كان يمكن الوصول إلى صيغ الحكم التي تأسست على حقيقة واحدة أن الجماعة هي تعبير عن إرادات الأفراد المختلفة. فقط عبر مثل هذه الصيغ تم تبني أشكال مثل الديمقراطية التي صارت المطلب الأسمى والوصفة السحرية لطريقة حكم الأفراد لبعضهم البعض، وصارت ترتيباتها هي أساس الحكم الذي يرضاه الأفراد.
وفي تلك الصراعات كان تقديم الأطروحات النظرية يأتي من باب تثبيت الحق المنشود، أو ربما لتبرير التصرفات الرعناء التي تبدر عن البعض. إن التأريخ هو محاولة تفسير الأحداث. والسعي الحثيث للتبرير ليس إلا تفسيراً لمجريات تلك
الأحداث وإكساب الماضي شرعية في سعينا لفهم ما يجري. وبغية كل الأطروحات لم تكن أكثر من مَنطقة ما جرى في الماضي ووضع تصورات لكيفية فهم ما يجري. إن سعي الأفراد للبحث عن صالحهم العام بحاجة دائماً لسياقات نظرية تجعل التصرفات معقولة ويمكن تقبلها. وفي ذلك فليس بحث الإنسان عن الفلسفة إلا مهمة، ليس لفلسفة الأشياء أو لصبغها بأطر مافوقية على صعيد الوعي، بل في سبيل هضم الواقع. صراع الإنسان مع العالم حوله كان دائماً، بقدر كونه فطرياً، أكبر من مقدرته على فهمه أو تبريره. لذا كان لا بد من إيجاد التبريرات اللازمة. كان هذا يقتضي البحث في الوعي وتقليب المنطق، والتفتيش تحت كل حصوة في الخبرات السابقة للبشرية من أجل تقديم ما يمكن أن يساعد في جعل الأشياء معقولة. إن صراع الإنسان كان دائماً مع ما يجعله يبدو طبيعياً. فلحظة وجد الإنسان – بالشكل المجرد - نفسه وحيداً على الأرض وفكرة السقوط من الجنة لم تغادر فكر البشرية، إنه السقوط الذي لم يكن برضا ولا باختيار منطقي من الإنسان، وعليه ظل استرداد هذا الفردوس مسعى الإنسان الأساس. لننتبه، ليست كل المعتقدات التي زخر بها التاريخ
إلا بحثاً عن تكفير عن هذا الخطأ، وبحث عن السبل المثلى للعودة إلى هذا الفردوس المفقود بتعبير جون ميلتون. والصراع بين الخير والشر هو صراع من أجل تحقيق الأفضل للفرد الذي فقد مملكة صاغها عبر وعيه المختلف وعبر الأزمان المختلفة وفق معتقدات وأديان متنوعة. كان دائماً هناك ما يغري في تبرير هذا البحث لأن ثمة هدفاً أسمى. وكان دائماً يتم تقديم هذا التبرير بعبارات ومصطلحات ومفاهيم كبيرة، لكنها مع هذا قادرة على أن تكون مقنعة. والشيء المقنع هو الذي يشعرنا بالقلق بقدر إشعارنا بالرضا. لذا لم يتوقف البحث يوماً.
إن تحقيق الفرد لذاته لا يكون إلا بتأمين موقعه في شبكة العلاقات الداخلية التي تتحكم بأمور الجماعة. وبكلمات النظم السياسية المعاصرة لا يكون إلا بالتأكد من مشاركته الفاعلة في اتخاذ القرارات المصيرية التي تنظم حياة المجتمع. وهذا لا يتم الآن إلا عبر مؤسسات الدولة بوصفها التمثيل الأسمى للتكوينات السياسية. إن الحفاظ على هذه الحقوق لا يتم ولا يصان إلا عبر الدستور الناظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم، ولعلاقاتهم مع الدولة. هذا السعي هو الذي يحقق الخير العام ويترجم بتصرفات نبيلة كيف يمكن الحفاظ على هذا الخير العام. والفرد الواعي والقادر على التعبير عن حقه والمستعد للكفاح من أجله هو المواطن الحقيقي في هذا المجتمع.
يبدو كل الحديث السابق ونحو نخطو نحو العملية الانتخابية. إن فهم الفرد لحقوقه، والعمل على الاستفادة منها من خلال تقرير شكل المؤسسة التي تقود حياته، أمر جوهري في نجاح هذه العملية. الأفراد غير القادرين على فهم حقوقهم لا يمكن أن يتمتعوا بها بشكل سليم، ولا يمكن لهم أن يدافعوا عنها إذا تعرضت للخطر. وربما بعد الانقلاب المأساوي وما نتج عنه من انقسام كارثي تعرضت حقوق الأفراد وحريتهم كما مستقبلهم لخطر غير مسبوق، آن الأوان للبحث عن تغيير هذا الواقع.