عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - لا يمكن الحديث عن وضع عربي أو عن موقف عربي واحد. أبرز ما كشفته هرولة بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل هو انتهاء حقبة الموقف العربي المشترك. صحيح أن مثل هذا الموقف لم يكن موجوداً، أو على الأقل لم يكن يوماً حاسماً في تقرير الحالة العربية، إلا أنه على الأقل كان لفظياً يحمي المصالح العربية من انزلاقات خطرة في السابق. الفلسطينيون أكثر من غيرهم دفعوا فواتير الخلافات العربية. وفيما لم تكن هذه الخلافات يوماً حول فلسطين أو من أجل قضيتها، إلا أن الفلسطينيين كانوا أكثر من دفع الأثمان الباهظة، إذ إن الاتجار بالقضية كان الشماعة التي يتم تعليق كل ذنوب الأنظمة وخطاياها عليها.
مع التسارع العربي نحو إقامة علاقات علنية مع تل أبيب، بات واضحاً أن آخر قشة كانت تستر «عورة» الموقف العربي المشترك وتجعل منه شيئاً قائماً، وإن لم يكن كذلك، تلاشت وطارت مع الريح الوافدة من واشنطن، لتحط على طبق صغير أمام الحكومة الإسرائيلية يقول: نحن آسفون. صحيح أن الكثير من البلدان العربية أقام علاقات سرية مع الدولة التي أقيمت بقوة السلاح على مدن وقرى الشعب العربي الفلسطيني، الشقيق كما ما زال البعض يتغنى، إلا أنها كانت تشعر بالخجل من إعلان هذا الحمل المبكر، أو المجاهرة بوجود تلك العلاقة غير الشرعية. وربما مع وجود الكثير من الأدلة في السابق على وجود مثل تلك العلاقة، إلا تلك البلدان كانت تبادر إلى النفي وربما رمي من يقول بذلك بالمخرب الذي يريد أن يعكر صفو العلاقات العربية العربية. فمع الإعلانات الأخيرة ظهر الكثير من الحقائق. أو أن الكشف عن هذه الحقائق لم يعد أمراً مخجلاً. صحيح أن الكثير من تلك الحقائق كان في دوائر التخمين وملفات الشك، إلا أن الإعلان والحماسة التي رافقت تلك الإعلانات عن علاقات وطيدة يجري العمل عليها كشف الكثير من المستور. من المؤكد أن هذه الإعلانات هي جهد لسنوات من العلاقات غير الشرعية التي يتطلب ظهور الجنين إعلانها. هكذا سارت الأمور. لذا فإن الإعلان عن تفاصيل تلك العلاقات التي بعضها يسبق هزيمة حزيران بات أمراً مشروعاً، وربما مرغوباً، وتم العمل عليه بأريحية. فالأخبار والتقارير التي ظهره للعلن والصور الفوتوغرافية التي بات نشرها جزءاً من الحديث عن انتصار قديم، كلها قدمت أدلة على عمق ما كان يجري، وأن ما جرى مؤخراً من تظهير لتلك العلاقات ليس بالشيء الجديد. لم يتعد الأمر كونه إعادة تعريف لعلاقة قائمة. وهذا في قانون الدول شيء طبيعي، لكنه في قانون الشعوب الكبرى ذات التاريخ العريق مثل الشعب العربي وفي ظل ما كان يحمله القرن الماضي من دعاية للقومية العربية وللمصير العربي المشترك، فإن هذا ليس طبيعياً بأي حال. هكذا لم يعد ثمة حالة عربية واحدة.
الآن الحديث مختلف. ثمة بشائر على أهمية العلاقات مع تل أبيب. وثمة بيانات يتم نشرها حول السياحة المتبادلة والفائدة الاقتصادية التي يمكن جنيها منها. وهناك حديث حول ضرورة فهم المجتمعات الأخرى من أجل تعميق التفاهم بين الشعب الجديد وشعوب الدول المطبعة. وأيضاً ثمة استذكار نوستالجي لتاريخ مشترك يبدأ من الخليج وينتهي في المحيط، قصص عن ماض جميل. وثمة استذكار آخر لنضال مشترك وقهر مشترك منذ أيام محاكم التفتيش حتى الحقبة التي «اضطر» المساكين أن يسرقوا فيها أرض فلسطين. بكائيات تكشف مستوى الجهل العربي للأسف، وتكشف مدى الخسارات الكبرى التي تشهدها الحالة العربية التي لم تعد على حالها منذ تلك اللحظة.
هناك خلاصة أساسية في كل ذلك، تتعدى ربما السياق الفلسطيني الذي نحن بصدده، إذ إنها تشير إلى غياب المصير العربي المشترك. حتى تلك اللحظات السوداء كان ثمة ادعاء بوجود ما يجمع الحالة العربية، وإن كان ظاهرياً. الآن مع زوال إسرائيل من قائمة العدو المشترك، فإنه لم يعد لأي خطر أن يشكل عدواً مشتركاً للدول العربية. وأساس ذلك أن إسرائيل بوصفها اللص الكبير الذي يسرق الأراضي العربية الفلسطينية وأجزاء من سورية وأخرى من لبنان، وقبل ذلك سرقت من مصر والأردن، تمت إزالتها من التهديد المشترك، فإن أي خطر لا يمكن له أن يرقى إلى مستوى «المشترك» بين الدول العربية.
وهكذا، فإن آخر ما يمكن له أن يجمع العرب انتهي من كل الدفاتر. صحيح أن أول بوارد ما بات يعرف كذباً بالربيع العربي كان ظهور الهويات الفرعية وتمظهرها في الخطابات المحلية، والتركيز على المصائر المختلفة لتلك الهويات على مصلحة مصير القطر الذي هو بدروه وبمجموعه مصير الأمة العربية، لكن أيضاً بتلك الإعلانات حول العلاقات الجديدة مع تل أبيب والتباهي بها، فإن الصفحة الأخيرة من دفتر الحالة العربية انتهي، وربما بات من العيب الإشارة إلى الطموح أو الحلم باستعادتها. حتى أن التفكير والحنين للماضي حين كان ثمة ما يجمعنا بات عيباً، وربما مضراً بالحالات العربية الجديدة، ويمس المصالح العليا لتلك الدولة.
وماذا بعد؟
من المؤكد أن ثمة حاجة لإعادة تعريف الصراع ضمن المعطيات الجديدة. وإذا كان أول الرقص حنجلة، فإن أول الانهيار العربي هو التطبيع، إذ إنه لن يكون غريباً أن نجد بعض الدول المطبعة تتبنى مواقف معادية للحقوق الوطنية الفلسطينية. فالمبدأ قد انهار ولم يعد هناك شيء يجعل من القبح عيباً. وعليه هل سيبدو غريباً أن تمتنع بعض الدول عن التصويت لصالح القضية الفلسطينية أو أن تصويتها سيتطلب عملاً دبلوماسياً شاقاً، وربما تمتنع. وستخجل في البداية أن تصوت ضد. ولكن ثمة كفرة كثيرين كاثوليكيون أكثر من البابا وفقراء النفس أكثر ملوكية من الملك.
 نقلا عن صحيفة الايام