النجاح الإخباري - كتب ياسر أبوبكر:
جاء مقال الدكتور ثروت زيد الكيلاني في صحيفة القدس بعنوان: "المناهج الفلسطينية… شعلة الوعي وقلعة السيادة" في لحظة فارقة، حيث يعاني التعليم الفلسطيني من ضغوط الاحتلال وسياساته الرامية إلى تشويه الوعي وطمس الهوية الوطنية. وقد أصاب الكاتب حين أكد أن المناهج ليست مجرد محتوى معرفي، بل هي جبهة مقاومة وفضاء للسيادة الوطنية. إن هذا المقال جاء في وقته، لأنه يعكس عمق الوعي التربوي والسياسي، ويستحضر تجربة الحركة الأسيرة التي جعلت من التعليم داخل السجون قلعة للتحرر العقلي، وحوّلت المعاناة إلى مدرسة للصمود وإعادة بناء الذات.

إن صياغة المناهج ليست إجراءً فنياً محضاً، بل هي عملية معقدة تتداخل فيها اعتبارات فلسفية، اجتماعية، وسياسية.

 في السياق الفلسطيني، يزداد الأمر تعقيداً لأن المناهج يجب أن تقوم بأدوار متزامنة تتضمن : 

1. تعزيز الهوية الوطنية عبر تضمين تاريخ الثورة الفلسطينية، ورموز المقاومة الوطنية و الثقافية، وتجارب الأسرى كنماذج للصمود.

2. تأهيل الأجيال علمياً ومعرفياً لمنافسة أقرانهم إقليمياً ودولياً، وذلك عبر دمج العلوم الحديثة، مهارات القرن الحادي والعشرين، والتفكير النقدي.

3. مواجهة الرواية الصهيونية التي تحاول فرض سردية مشوهة على العالم، وهو ما يجعل المناهج الفلسطينية ذات طابع سيادي لا ينفصل عن مشروع التحرر.

4. البعد النفسي والاجتماعي، حيث ينبغي أن تساعد المناهج الطلبة على تجاوز الصدمات الناتجة عن الاحتلال والحروب، عبر التربية على الصمود والتكيف الإيجابي.

الحالة الفلسطينية حالة خاصة لا تشبه غيرها من البيئات التعليمية. فالتعليم يتم تحت الاحتلال والعدوان ، وفي ظل انقسام سياسي، وحصار اقتصادي، وتدخلات خارجية تحاول التأثير في شكل المناهج ومضامينها. هذه الخصوصية تفرض أن تكون المناهج أكثر من كتاب مدرسي؛ إنها أداة مقاومة ثقافية وبناء وطني.

 هنا تبرز تجربة الحركة الأسيرة كمرجعية ملهمة: حيث طوّر الأسرى مناهج داخل السجون اعتمدت على التعلم الذاتي والتعاوني المقاوم ، وعلى جعل السجن نفسه "جامعة وطنية". هذه التجربة تثبت أن التعليم الفلسطيني قادر على الإبداع حتى في أقسى الظروف، وأن المناهج قادرة على التكيف دون فقدان رسالتها الوطنية.

و حتى تواصل المناهج الفلسطينية القيام بدورها التاريخي، هناك حاجة إلى خطة استراتيجية تقوم على عدة محاور:

1. إصلاح هيكلي مستدام للمناهج: عبر إنشاء مجلس وطني تربوي مستقل يضع السياسات الكبرى للتعليم بعيداً عن الضغوط السياسية والتمويل المشروط.

2. دمج التكنولوجيا الرقمية: تطوير منصات تعليمية فلسطينية آمنة تتيح وصولاً حراً للمناهج والمواد المساندة، بما يحمي التعليم من الرقابة والابتزاز الخارجي.

3. تعزيز الدراسات الوطنية والتاريخية: من خلال إنتاج مواد تعليمية توثق الرواية الفلسطينية، مع ربطها بالبعد الإنساني العالمي عبر مفاهيم الحرية والعدالة.

4. تدريب المعلمين: الاستثمار في إعداد معلم قادر على الجمع بين الحس الوطني والكفاءة التربوية، ليكون ناقلاً للمعرفة وبانياً للوعي.

5. التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية: لإجراء مراجعات دورية للمناهج، تضمن مواكبتها للتحولات العلمية والتكنولوجية، وتضمن قدرتها على المنافسة في المؤشرات الدولية.

6. التربية على الصمود: إدخال وحدات تعليمية خاصة بالتكيف النفسي والاجتماعي، مستلهمة من تجربة الأسرى، لتقوية مناعة الطلبة في مواجهة الواقع القاسي.

ختامًا نقول : لقد وضع الدكتور ثروت في مقاله أساساً وطنياً متيناً للنقاش حول المناهج الفلسطينية. ومن واجبنا أن نطوّر هذه الرؤية - كما حاولنا أن نعمل - وذلك من خلال استراتيجيات عملية تجعل من المناهج جسراً بين الماضي والمستقبل، بين الهوية الوطنية والانفتاح على العالم. فالمناهج ليست أوراقاً مطبوعة، بل هي معركة وعي ومشروع سيادة، وهي الكفيلة بأن تضمن للأجيال الفلسطينية القدرة على المقاومة والبناء في آن واحد .