النجاح الإخباري - كتب : د. سراج أمين
في بلادٍ تنهكها الوعود، وتثقلها الخرائط المؤجلة، لا يكون الصوت العالي دليلًا على وضوح الرؤية، ولا تُقاس الزعامة بحجم التصفيق، بل بقدرة اليد على البناء، والعين على المستقبل، والقدم الراسخة في الأرض.
تلك كانت معضلة الدكتور محمد اشتية، الذي دخل إلى المشهد الفلسطيني من بوابة الوعود الطموحة والخطط المؤطرة بلغة التكنوقراط والبلاغة السياسية، لكنه خرج منه محاطًا بشبه فراغ تنموي، وانكفاء مؤسساتي، وذاكرة وطنية مشوشة بين ما قيل وما لم يُنجز.
اليوم، وبينما لم تعد الحكومة حكومته، لا يزال الرجل يطل علينا بين الفينة والأخرى، بصوته المعهود ونبرته الواثقة، وكأن شيئًا لم يكن. يُدلي بتصريحات هنا، ويطرح حلولًا هناك، وكان آخرها مبادرته حول أزمة معبر الكرامة، متناسيًا أن تلك الأزمة ذاتها نشأت وتفاقمت في عهد إدارته، دون أن يجد لها حلًا أو رؤية.
إنها ليست قراءة في ماضٍ انتهى، بل مساءلة لظلٍّ لا يزال يحوم فوق الواقع. وحين نكتب، فليس من باب الحقد، بل من أجل ألا نُلدغ مرّتين من ذات البلاغة، ولا نستسلم لتكرار الفشل نفسه بثوبٍ مختلف. فالتجربة التي لا ننتقدها بوعي، سنعيد إنتاجها بغفلة.
في حضرة الوطن الجريح، تبدو الكلمات أقل من أن تحتوي حجم التحديات التي تراكمت فوق كاهله، وأثقلته بحمولة وعود لم تجد طريقها إلى التنفيذ. لقد جاء الدكتور محمد اشتية إلى سدة رئاسة الحكومة محمولًا على خطاب وطني طموح، حالمًا بنقلة نوعية تعيد ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وتكسر قيود التبعية للاحتلال، وتبني اقتصادًا مستقلًا قائمًا على المعرفة، والتنمية، والانفتاح الذكي على العالم. غير أن ما طُرح في خطاب التنصيب وما تلاه من تصريحات رسمية، لم يكن سوى رسمٍ على رمال متحركة، تآكلت تحت ضغط الواقع وغياب الإرادة التنفيذية، وافتقار الحوكمة الصارمة التي لا تحيا بالشعارات وحدها.
فمنذ البدايات، طرح اشتية ما أسماه بـ"التنمية بالعناقيد"، وهي رؤية تقوم على استثمار الميزات النسبية لكل محافظة، وتحويلها إلى مركز إنتاج تخصصي مستدام. في قلقيلية تحدث عن الزراعة، وفي الخليل عن الصناعة، وفي بيت لحم عن السياحة، وذهب أبعد من ذلك حين تحدث عن إنشاء صوامع إقليمية للحبوب لتحقيق الأمن الغذائي. لكن الواقع كان أقل رومانسية بكثير؛ إذ بقيت هذه الخطط عالقة في الخطابات الصحفية، دون أن تُترجم إلى مشروعات ملموسة، أو نتائج يمكن قياسها، أو بنى تحتية قادرة على حمل الرؤية إلى حيث تؤتي أُكلها. لم نشهد مناطق إنتاج متكاملة، ولا قفزة في معدلات التشغيل، ولا حتى خارطة زمنية تعكس جدية التنفيذ.
وفي سعيه لبناء سيادة مالية، لم يكن حديث اشتية عن العملة الرقمية سوى محاولة جريئة في الخطاب، لكنها خاوية من الآليات. أعلن بفخر أن فلسطين "تسير في طريق إصدار عملة رقمية" تتجاوز قبضة الشيكل الإسرائيلي، لكن الطريق بقي ضبابيًا، إذ لم تُنشأ البنية التشريعية لذلك، ولم تُؤسس منظومة مصرفية إلكترونية متكاملة، ولا طُرحت خطة فنية أو اقتصادية تُقنع الشارع والمستثمر المحلي، ناهيك عن الخارجي، بأن هذا الطرح يتجاوز أمنيات المايكروفون. لقد جرى الترويج للمشروع إعلاميًا، دون أن يحمل الفلسطينيون في جيوبهم ولو نموذجًا رمزيًا منه، فبقي الوعد وعدًا.
ولم تكن الشراكات الدولية التي تحدث عنها اشتية أوفر حظًا من سابقاتها. تحدّث عن توقيع اتفاقيات مع مؤسسات مالية كبرى، وأشاد بالدعم التركي والماليزي والصيني والروسي، وامتدح موقف المملكة العربية السعودية في دعم القدس، لكنه لم يُفعّل هذه الشراكات في بنى اقتصادية إنتاجية. لا مشاريع كبرى شُيّدت، ولا بنى تعليمية أو صحية دائمة تحققت. وحدها البيانات الصحفية التي رافقت الزيارات الرسمية كانت حاضرة، فيما الغائب الحقيقي هو الأثر.
أما على المستوى السياسي، فقد أبدى اشتية رفضًا صريحًا لانفصال غزة عن المشروع الوطني، وانتقد بشدة كل محاولات خلق كيان سياسي موازٍ في القطاع. لكنه لم يُقدم تصورًا عمليًا لإعادة بناء الوحدة الوطنية، ولم يُطل برؤية تُدمج بها غزة ضمن آليات الحكم والإدارة والمؤسسات. جاءت استقالته في فبراير 2024 بمثابة إقرار غير مباشر بعدم القدرة على إحداث فارق، لكنها لم تتضمن اعترافًا مسؤولًا بحجم الإخفاق، ولا دعوةً جادة لمحاسبة أو مراجعة أو مصارحة وطنية. بل ترك لمن خلفه حكومة مثقلة بأزمات السيولة، وضعف الثقة، وانكماش السلطة في حدود الجغرافيا والنفوذ، واستفحال الانقسام.
ما خلفه اشتية ليس مجرد فراغ في الأداء، بل تراكم لأوهام التنمية دون أقدام تسير بها. السلطة التي تسلمها كانت محاصرة، لكنه لم يحررها من هذا الحصار، بل أعاد إنتاجه بشكل أكثر أناقة لفظية وأقل فاعلية ميدانية. المواطن الفلسطيني في عهده لم يشعر بأمان اقتصادي، ولا بوحدة سياسية، ولا باقتراب من الحلم الوطني. وعوضًا عن الاعتراف الجريء بالفشل، ظل الرجل يُراكم على نفسه شعارات لم يعد لها رصيد في الوعي الجمعي الفلسطيني، الذي بات أكثر تشككًا وأقل ثقةً بقدرة السلطة على الإنجاز.
إن الناقد الوطني الذي يقرأ تجربة اشتية، لا يمكنه أن يمرّ على هذه المرحلة دون أن يقرّ بأنها كانت فرصة مهدورة. ومع أن الرجل يمتلك من الخلفية الأكاديمية ما كان يمكن أن يؤسس لرؤية ناضجة، إلا أن إخفاقه في ترجمة الفكرة إلى فعل، وتردده في الاعتراف بإخفاقات حكومته، جعله أقرب إلى من يُجمّل العطب منه إلى من يسعى لإصلاحه. ومن هنا، فإن من سيأتي بعده لن يبدأ من نقطة صفر، بل من تحت خط الفشل، حيث تراكمت الخيبات، وتآكلت الثقة، واتسعت هوة الانفصال بين السلطة والناس.
لقد آن الأوان لأن يعترف قادة المرحلة، بجرأة لا ترف فيها ولا تورية، بأن الشعارات وحدها لا تصنع تغييرًا، وأن الحكم لا يُقاس ببلاغة الخطب، بل بما تتركه الأفعال من أثر. فالوطن لا يحتاج إلى مزيد من الوعود، بل إلى قيادة تتحرك بثقة، وتحاسب نفسها قبل أن تحاسبها الأجيال. وفي ذلك وحده تبدأ رحلة الخروج من التيه.