النجاح الإخباري -  في مشهد يلخص حال الآلاف من الأسر الفلسطينية التي تفرق شملها بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا تتوقف الطفلة جودي ذات الأعوام العشرة عن البكاء لافتقادها والدها الذي اعتقله جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياحه لمدينة حمد شمال غرب خان يونس في مطلع الشهر الحالي.

تمسك جودي بصورة صغيرة لوالدها وتحتفظ بسترته السوداء وحذائه اللذين وجدتهما عائلتها عند البوابات الإلكترونية التي وضعها جيش الاحتلال للتفتيش والاعتقال قبل انسحابه من المدينة الواقعة في جنوب قطاع غزة. وتحتضن الطفلة السترة والحذاء عند نومها وتمسكهما عند استيقاظها، متشبثة بهما كتشبثها بالأمل في عودة أبيها.

تمسح الطفلة بيدها على السترة وتقبلها مثلما تقبل صورة أبيها والدموع تنهمر من عينيها وهي تتحدث عن الأيام الأخيرة التي قضوها في شقتهم رغم القصف الذي كان يحيط بهم من كل جانب، قبل أن يقتحم الجيش الإسرائيلي المدينة ويجبر سكانها على إخلائها تحت القصف والرصاص.

تتذكر جودي أيام ما قبل الحرب مع والدها، وتقول لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "مشتاقة لبابا كثير، بدي (أريد) بابا أشوفه وأحضنه وألعب معه. ليش (لماذا) يحرمونا من بابا؟ شو (ما هو) ذنبي أنا أعيش بدونه؟ كيف أصوم وبابا ما بيفطر معنا؟".

تدخل الطفلة في موجة بكاء جديدة وهي تواصل تساؤلاتها الموجعة حول أبيها، وبالكاد تستطيع التقاط أنفاسها لتحتضنها أمها وتحاول أن تخفف من حدة بكائها المتصاعد الذي يلفت انتباه العائلات النازحة بجوارها الذين يبدو عليهم التأثر من تعلق الابنة بأبيها وحديثها الذي لا ينتهي عنه.

توضح الأم ماجدة زغرة (38 عاما) أن أسرتها كابدت مرارة الحرب والنزوح عدة مرات منذ نزوحها قسرا من شقتها في مدينة حمد إلى محيط خان يونس ثم إلى رفح فالمواصي، لتقرر وضع حد للنزوح وتعود أدراجها إلى شقتها وتعيش فيها بضعة أسابيع بهدوء قبل أن يباغتهم الجيش الإسرائيلي ويقتحمها ويجبرهم على الخروج قسرا من جديد.

وتشير إلى أنه رغم مرارة نزوح العائلة السابق، فإنه كان أهون بكثير من نزوحها بلا زوج ولا أب لأبنائها، قائلة إنها لا تعرف كيف تدبر إفطارهم وسحورهم في شهر رمضان، وهي التي خرجت من شقتها عبر بوابات الجيش الإسرائيلي دون أن تحمل معها أيا من ملابسها أو أمتعتها أو أي أشياء ثمينة يمكن بيعها لتوفير احتياجاتها، لتجد نفسها على قارعة الطريق بلا عائل.

تتواصل الزوجة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر على أمل معرفة مصير زوجها عبد اللطيف زغرة (40 عاما)، لكنها لا تجد أي إجابة ولا تعلم ما الذي حدث له وما إذا كان على قيد الحياة أو فارق الحياة من "شدة التعذيب"، كما تسمع من روايات المطلق سراحهم.  

تعتبر الزوجة والأم لخمسة أبناء أن أصعب شيء عليها هو غياب أي معلومة من الجيش الإسرائيلي عن زوجها يمكن أن تهدئ روع أبنائها، لافتة إلى أن هذا الغموض يزيد من قلقهم ويفاقم أوجاعهم ويجعلهم يتوقعون الأسوأ.

وتقول "آخر لحظة كان معنا عبر البوابات الإلكترونية ولا نعلم بعدها ما الذي حدث بعد اعتقاله وخروجنا نحن بدونه... روايات التعذيب والقتل داخل السجون الإسرائيلية مروعة حسبما نسمع من المفرج عنهم الذين لم يشاهدوا زوجي في أي سجن حتى الآن، ولا أعرف من أين أتلقى المصائب من النزوح بلا مأوى أم من التوتر على زوجي؟".

نفس مشاعر القلق والتوتر تنتاب أسر المعتقلين الفلسطينيين لدى جيش الاحتلال الذين يقدر عددهم بالآلاف، حيث لا تجد هذه الأسر معلومات عن مصير أحبائهم رغم الجهود والاتصالات التي يجرونها مع الجهات المختصة مثل الصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان التي تبلغهم بأن الجيش لا يقدم أي معلومة عن المعتقلين من قطاع غزة وليس أمامهم سوى الانتظار.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز يوم الخميس نقلا عن منظمة حقوقية إسرائيلية أن أكثر من تسعة آلاف فلسطيني يقبعون حاليا في السجون الإسرائيلية، مشيرة إلى أن العديد منهم اعتقلوا في الضفة الغربية المحتلة حيث شنت قوات الاحتلال مداهمات واسعة النطاق منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول، فيما يُحتجز عدد غير معروف من سكان قطاع غزة في منشآت عسكرية.

* مصير مجهول

هذا المصير المجهول يحول حياة الفلسطينية وجدان البرعي (36 عاما) إلى "جحيم"، بينما تفكر ليلا ونهارا في زوجها حسام حجازي (39 عاما) الذي كان معها حتى آخر لحظة عند إحدى البوابات الإلكترونية للجيش الإسرائيلي قبل أن ينفصل عنها وعن أبنائها، ومنذ تلك اللحظة لا تعرف عنه شيئا.

توضح وجدان أن عائلتها عادت لمكان سكنها بعدما هدأت المنطقة وعاشت نحو شهر في هدوء حتى فوجئوا بعملية برية لجيش الاحتلال في منطقتهم، فحاولت الفرار مع عائلتها لكن زوجها أصيب بتشنجات خلال الطريق واضطرت للعودة إلى شقتها مرة أخرى، قبل أن يأتي الجيش ويجبرهم على النزوح قسرا.

وتذكر أن الأسرة كانت نازحة في مرآب سيارة في رفح لمدة شهرين لكن الصعوبات الكبيرة التي واجهتهم خلال النزوح، خاصة في ظل مرض الزوج، دفعت الأسرة لاتخاذ قرار بالعودة إلى شقتهم التي قيل لهم إن منطقتها آمنة. 

تجلس وجدان إلى جانب ابنها الأصغر عمر الذي لم يكمل أعوامه العشرة وهو ممدد من شدة الإعياء الذي أصابه حزنا على غياب والده، ولا يتحدث إلا بكلمات قليلة لا تزيد على "بدي (أريد) بابا بدي بابا".

تظهر علامات الحزن على وجه الطفل الصغير، وتسيطر الأوجاع نفسها على أشقائه الثلاثة حلا (16 عاما) وهيا التي تصغرها بعام ومحمد الأصغر منها بعامين، الذين كانوا يلتفون حول أخيهم الأصغر يحاولون التخفيف عنه.

بيد أن بكاء الطفل الصغير زاد من جحوظ عينيه ونحول وجهه وعدم قدرته على الحركة والتنقل حتى رقد على فرشته يتأمل من حوله ولا ينبس ببنت شفة سوى السؤال عن والده المفقود لدى الجيش الإسرائيلي منذ السابع من مارس آذار.

وتروي وجدان أن الأسرة تجاوزت بوابتين إلكترونيتين للجيش الإسرائيلي، لكنهم انفصلوا عند البوابة الثالثة عن زوجها الذي استأصل الغدة الدرقية ويعاني من مشاكل في النظر وتشنجات مستمرة جراء فقدانه الأدوية المخصصة لمرضه.

وبينما تصف السيدة حالة زوجها بأنه "مفقود" كونها لا تعلم عنه شيئا ولم يقر جيش الاحتلال باعتقاله ولم يُسمح لأي محام من المؤسسات الحقوقية المختصة بمعرفة مصيره، فإنها تؤكد أنها كانت تفتش بين جثامين القتلى الملقاة في الشوارع القريبة من شقتها وتسأل في كافة المستشفيات ومراكز الإسعاف والطوارئ علها تحصل على أي معلومة، لكن دون جدوى.

وبحسب مركز الدفاع عن الفرد (هموكيد)، وهو منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 3500 معتقل فلسطيني محتجزون دون اتهامات رسمية، وهي الممارسة المعروفة باسم الاعتقال الإداري والتي زادت إسرائيل من استخدامها منذ بدء حربها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر تشرين الأول. 

وأشارت إلى أن الفلسطينيين المسجونين ينقسمون إلى مجموعتين، حيث يتم نقل فلسطينيي الضفة الغربية إلى نظام السجون المدنية الإسرائيلية، فيما أُرسل المئات من سكان غزة إلى ثلاثة مرافق احتجاز على الأقل يديرها الجيش. 

ووفقا للمنظمة الإسرائيلية، حسبما نشرت نيويورك تايمز، فإن قاعدة (سدي تيمان) العسكرية هي أقرب موقع احتجاز عسكري معروف إلى قطاع غزة، حيث تقع على بعد حوالي 29 كيلومترا تقريبا من الحدود مع القطاع. ولا تتوفر سوى معلومات شحيحة عن تلك القاعدة.