نابلس - النجاح الإخباري - بقلم سامي أبو سالم- غزة

كنت أعتقد أن "رائحة الموت" هي مجرد تعبير أدبي مجازي، وإذا ولا بد فالرائحة تتلخص في روائح الجثث المتحللة في الشوارع من بقايا الكوارث والحروب، لكن في واقع غزة فالأمر غير ذلك.

فعند كل بيت تسحقه طائرات الاحتلال على رؤوس ساكنيه تشتم اللحم البشري المتفحم، ورائحة البارود مع غبار الخرسان، لكنك لاتستطيع هنا أن تفرق بين لحم الأطفال ولحم العجائز، ولا لحم طبيب أو مهندسة أو ربة بيت، فكلهم سواء، سيما إذا تناثرت بقع الدم على جدران مجاورة. هذه الرائحة التي التصقت بالذاكرة ينفرد بها الموت فقط.

تمر من جانب بيت جيرانك، تشتم رائحة جثث مع بقايا أغصان الزيتون المحترقة؛ رائحة نفاذة لعائلة دُفنت تحت الركام واحترق زيتونهم، بعد أن فتَك صاروخ بمربع سكني من حولك، وتزداد قوة الرائحة بازدياد عدد أفراد الأسرة أو باقترابك من الركام. آلاف الجثث لا تزال تحت ردم مئات آلاف المنازل والمنشآت. فمنهم منقضى نحبه فورا ومنهم من انتظر إلى أن قضى عطشا أو جوعا لأن فرق الإنقاذ لم تستطع انقاذهم أو انتشالهم. في التاسع من أكتوبر الماضي، هاتفني زميل يطلب مساعدة لإنقاذ والدته وأخيه وأطفالأخيه الذين انهار عليهم البيت، بمدينة غزة، جراء صاروخ، لم يتم انتشالهم للشهر السادس، ربما استشهدوا تمزيقا أو حرقا أو خنقا أو عطشا.

بين الأزقة، في البراري، في الوديان، جثث تتطاير هناك لمئات الأمتار بفعل الصواريخ "الكبيرة" التي تزيل مربعات سكنية بأكملها، أو مواطنين يستهدفهم قناص إسرائيلي دون أن يشعر بهم أحد. فيتعرف الناس على وجود جثة بفعل الرائحة... في منطقة وادي غزة، رائحة الأرض البكر المعهودة ورائحة السماد العضوي سارت تنذر برائحة الموت. انتشرت الرائحة لعشرات الجثث لشهداء كانوا يحاولون العودة من جنوب غزة لشمالها، أو يجمعون طعاما من الأراضي الزراعية هناك...بعد زهاء أسبوعين على غياب ابنها إبراهيم كانت أم حسن الشافعي تفتش بين عشرات الجثث لتتعرف على ولدها، شخّصته من حزام السروال "صنعه من سرجالخيل"، حملت ابنها على كارة يجرها حصان إلى مشفى شهداء الأقصى وسط القطاع، تبعها 11 جثة لأطفال نقلهم الإسعاف من وادي غزة، لم تختلف رائحة موت الشباب عن الأطفال.

وتلتصق رائحة الموت بثلاجة الموتى ومحيطها في المستشفى،فالجثث ممددة على الأرض، أو أشلاء مكومة داخل أكياس. هناك بعض منها لم يصل ذووهم لأنهم أصلا استشهدوا ولم يتبق منهم أحد، أو لم يعلموا بهم، فتمضي أيام وليال وتبدأ الرائحة بالانتشار... 

أناس تسللوا، أو اندفعوا، تحت القصف والقنص إلى المستشفيات،يحاولون التعرف على أبنائهم بالبحث عن علامة فارقة في البدن أو الملابس، سيما وأنهم يصلون أشلاء أو مشوهين... يمسح والد الغبار عن وجه شهيد، يتفحص الأسنان والأصابع ويفتش عن جرح قديم في الرأس، وامرأة تفحص خاتم أو دبلة في يد جثمان تشك أنه لزوجها، حاولت فحص اليد الأخرى فلم تجدها. في مشفى الأقصى تعرف أخ على أخيه من جرح غائر في ساقه جراء حادث طرق عندما كانا يلهوان بدراجة هوائية في سنين غابرة. وأم شهيد مسكت يد جثة شاب ودوت بصرخة هزت المشرحة... (تأكدي يا أخت).. "هو وافحصوا ظهره هناك وحمة وراء كتفه الشمال" وكان وصفها دقيقا... مراهق تيقن بسرعة أن الجثة المجهولة لأخيه، "أخوي، عرفته من الجرابين، لبس جرابيني قبل ما يطلع"، قال بصوت خافت.

رائحة الدم والطحين، هي إحدى روائح الموت التي باتت مألوفة، شاحنة ضمن قافلة كانت تحمل الطحين لأكثر من نصف مليون جائع في شمال غزة، وعندما وصلت إلى "مفرق النابلسي" على الطريق الساحلي، هب الجائعون لالتقاط ما استطاعوا، لكن دبابات الاحتلال فتحت عليهم النار وسالت دماؤهم على الطحين ليخرج برائحة جديدة في قواميس مناخيرنا. عاد السائق إلى رفح ليحمل شحنة جديدة وينطلق إلى "مفرق الكويت" ويتكرر المشهد.

ليس بالضرورة أن تحتل الرائحة منخريك، فربما تتلاشى أو تتبدل بطارئ، فرائحة الموت وسط غرب غزة غالبا غسلها موج البحر فاختفت، فإنشاء مرفأ جديد في غزة يجري بسرقة ركام منشآت في غزة بما كانت تحوي من بشر ومقتنيات، لدفن جزء من شاطئ البحر لميناء لم تتضح معالمه ولا أهدافه بعد.