النجاح الإخباري - في مداخلة لبرنامج اذاعي مباشر يتناول موضوع أهمية اللقاءات الدورية لأولياء أمور طلبة المدارس من أجل متابعة قضاياهم ومناقشتها واتخاذ ما يلزم من معالجات بشأنها، إتصل أحد الآباء شاكياً من قلة اهتمام الآباء والأمهات عموماً بهذا الموضوع الهام، مُدللاً على ذلك بقوله أنه توجه إلى المدرسة التي يدرس فيها ابنه لحضور اجتماع تفاعلي، بناءً على دعوة تلقاها من ادارة المدرسة، بغرض التشاور في بعض قضايا وسلوكيات الطلبة والخروج بآليات عمل مناسبة للتعامل معها، ليتفاجأ بحضور إثنين فقط سِواه من بين خمسمائة ولي أمر وجهت لهم الدعوة.

حادثة تحمل في طياتها مؤشر بالغ الأهمية والدلالة في ظل المعطيات الإحصائية التي تُفيد بأن المجتمع الفلسطيني مجتمع فتّي حيث تبلغ نسبة من هم في الفئة العمرية 0-14 سنة قرابة ألــ 40% من مُجمل السكان، منهم ما يقارب 15% دون سن الخامسة. وهذه النسب تضع مسؤولية كبيرة على عاتق الآباء والأمهات في اخراج جيل صالح يخدم نفسه وأهله ووطنه، ويُسعِدُ وتَسعدُ به الدنيا بأسرها، تصديقاً لقوله جَّلَ وعلا "المَالُ والبَنُونَ زينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا"، فالذرية الطيبة الصالحة، حسنة الخُلق والخِلقة، والمُعافاة في العقل والبدن هي من نِعم الحياة التي تُحقق استقرار المجتمعات ورخائها، وفي ظل بلد تحت الاحتلال، تُعتبر سبباً من أسباب رص الصفوف، والتعاون، والإخاء، وشحذ الهمم والطاقات بين أفراد المجتمع. ولكن هل هذا واقع مجتمعنا؟

للأسف، إن ما تراه أعيننا وتسمعه آذاننا عن سلوكيات، وممارسات يومية خاطئة، مُنَفِّرة وطاردة، في مجتمعنا تحدثنا بغير ذلك، ولأنها كثيرة وعديدة فلن أسرد عنها في هذا المقام أمثلةً حتى لا يُسلط الضوء على البعض القليل ويُهمل الكل الكثير الذي لا يقل أهميةً وشأنا، وغالبيتنا مُطّلعين ومُدركين لحقيقة ما أتحدث عنه، وفي قرارة أنفسنا نشعر بالحزن والأسى لواقع حالنا. ولا يكاد المرء يجلس إلى ولي أمرٍ إلا ويشكو الأخير من سلبية سلوك الأبناء أو الخشية عليهم من فساد المجتمع وناسه، حيث أصبحت تنشأة وتربية الأبناء هاجسٌ دائم يؤرقنا، ونشكو في أحيان كثيرة عدم فهمهم لنا أو فهمنا لهم، وأحياناً أُخرى عدم طاعتهم أو عقوقهم، وأما العلم والتعلم ففي أدنى درجات إهتماماتهم.

وبما أن الشئ بالشئ يُذكر، فقد التقيت في إحدى المرات صديقاً تعرفت إليه أثناء فترة الدراسة التي جمعتنا في الخارج وتطرق بنا الحديث لتلك الأيام "بعجرها وبجرها" كما يُقال، فإذ به يُحدثني عن صراعٍ يعيشه داخل نفسه أو "إنفصامٍ في شخصيته" كما أسماه؛ فجزءٌ منه يتوق إلى سهولة ورتابة العيش في بلاد الغرب، بالطبع ليس لرغد العيش وطيبه فحسب، ولكن أيضاً لما فيها من احترامٍ للقانون والنظام والخصوصية وانسانية الإنسان، وأما جُزءه الآخر، فيحن إلى الشرق وأهله، ففيه الأهل والصحبة وأصدقاء الصبا وذكريات الطفولة والشباب الجميلة، وباختصار هو "الوطن". وبالنتيجة فصديقي لا هناك يهنأ ولا هنا يقنع، وتراه تارةً متأففاً وأخرى مكتئباً ويائساً من إمكانية التغير في مجتمعنا، مُعللاً بالقول المأثور "وهل يُصْلِحُ العطارُ ما أفسَدَ الدّهْرُ؟"، وحاله حال من سبق ذِكرَهم من أولياء الأمور الذين يشكون سوء المجتمع وأثره السلبي على تربية أبنائهم، مبرئين أنفسهم من الملامة ومتغافلين عن إخفاقهم في تنشأة وتربية هذا الجيل ووصوله للحالة التي يعيبونها. فالتربية لم تكن يوماً مقتصرة على توفير المأكل والمشرب والملبس، وإنما تشتمل بما لا يقل أهمية وشأناً على منح الأبناء الحب والحنان، والمتابعة المستمرة لشؤونهم، وتوجيهم التوجيه السليم، وتعليمهم معاني الرحمة والألفة والتسامح، ممارسةً عمليةً في العلاقة بهم، لا توجيهاً نظرياً؛ بيتياً أو مدرسياً.

إن التربية السليمة للأبناء لا زالت تُعتبر المهمّة الأصعب على طريق بناء مجتمعات قوية ومتماسكة إجتماعيا،ً وتتمتع بالازدهار والأمن والأمان. وتربية الأجيال لها أطراف ثلاثة: الأسرة، والمدرسة، والدولة؛ ينبغي أن تتعاون وتتكامل فيما بينها لتُخرج للمجتمع جيلاً تتمثل فيه مفاهيم المواطنة الصالحة التي نسمع عنها في أيامنا هذه، ولكننا لا نراها ممارسةً لدى الكثيرين في مجتمعنا، ذلك أن الخلل أو القصور في أداء أي طرفٍ من هذه الأطراف الثلاثة سيُلقي بظلال آثاره السلبية على صلاح الجيل بأسره. ويترتب على ذلك النظر إلى تربية النَشء على أنها مسؤولية فردية وبنفس القدر جماعية؛ فهي فردية بمعنى أنها فرض عين لا كفاية إذا أدّاها البعض سقطت عن البعض الآخر، وهي جماعية من منطلق العِقد والمصلحة المجتمعية التي يتحملها الجميع. وأركز في عُجالتي هذه على مسؤولية الوالدين، لا تقليلاً من مسؤولية كلاً من الطرفين الآخرين، ولكن لأنه وإن كان من الممكن للوالدين تفويض مهمة تربية أطفالهما لمحاضن تربوية غيرهما، فإن تلك المهمة تُعتبر أساساً مسؤوليتهما، والقاعدتين الإدارية كما القانونية تُفيدان بأن قيام الشخص بتفويض المهمة لا يعني تفويضه لمسؤوليته عنها، فالمسؤولية لا تفوض، ويتحملها المسؤول كاملةً، ولا يجوز له أن يتعذر عن أي اخفاقٍ بواجباتها بحجة تفويضها للآخرين، إذ أن المسؤولية لا تفوض مع الصلاحية أو السلطة.

وعوداً على ذي بدء، فلا عُذر لإنشغال الوالدين عن تربية أبنائهم ومتابعة قضاياهم المدرسية، وتركهم فريسةً لأصدقاء السوء ومنابت الفساد، بحججٍ كثيرةٍ واهية كالسعي وراء لقمة العيش وضرورات الحياة وإنشغالاتها، ومن ثم الشكوى من عقوق الأبناء، ولعن المجتمع وناسه، وهم في مجموعهم ناسه. فليلعنوا أنفسهم إذاً أو فليُصلحوها، ليَصلَحوا ويُصلحوا ذريتهم والمجتمع، ويحققوا سعادتهم وسعادته، وأمنهم وأمنه. إن ما نعيبه على مجتمعنا هو الحصاد المر، والثمرة الفاسدة لأمٍ لم ترعَ ولدها وتغذيه بالمحبة والحنان، وأبٍ لم يؤدبْ ولده ويُربيه على خير القيم ومكارم الأخلاق، وفي ذلك قول إبن القيم: (فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم وترك تربيتهم وتعليمهم، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً).

ومسؤولية تنشئة وتربية الأبناء كما أراها تقوم على أركان ثلاثة: التزام، أمانة، و واجب. فبموجب التكليف الرباني للإنسان بعمارة الأرض تطبيقاً لما ورد في قوله تعالى: "هو أنْشَأكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمرَكُمْ فِيهَا"، فإن الوالدان ملتزمان بإعمار النشء وتعزيز روح الانتماء والتضحية لديه حتى تسمو الأنفس إلى عالم الإيثار بكل ما يحمله من معاني النفعٍ والفائدة للفرد والمجتمع، ويعنيه من عمارةٍ للأرض. وتِباعاً جاء الأمر للوالدين بإحسان تربية الأبناء باعتبارهم أمانة من أمانات الله الكبرى التي ينبغي الحفاظ عليها ورعايتها عن كل ما قد يتسبب في فسادها أو ضياعها إمتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم "أَلَا كُلّكُمْ رَاعٍ وكُلّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِه". ومن متطلبات الحفاظ على الأمانة تنبثق واجبات تربوية على الأب والأم باتجاه تعزيز معايير حميدة في الأبناء، تُؤهّلهم لبناء حياتهم ومستقبلهم على أسسٍ سليمةٍ، وتجعل منهم أُناساً نافعين لأنفسهم ووطنهم، وتُهذب أخلاقهم بما يُبعدهم عن طرق الانحراف والضياع.

ولا بد للمسؤولية من مُحاسبة، بما يعني مساءلة المسؤول عما حققه من نتائجٍ متعلقةٍ بمسؤوليته. وأذكر أن حدثني زميلٌ آخرٌ لي درس في أمريكا بأنه حضرت إلى بيته ذات ليلة سيارة شرطة بسبب تعزيره أو تعنيفه لطفله، وفق اتصال هاتفي ورد لهم من أحد جيرانه. وحاول الشُرَطيون عبثا أخذ طفله منه، ولمّا يئسوا من ذلك، اكتفوا باعطائه تحذيراً على ممارسته مع طفله، وطالبوه بتوقيع تعهدٍ بعدم تكرارها. وقد يكون من المفيد أن يُسعى الى تطوير النصوص القانونية في مجتمعنا لمحاسبة من يخِلون بأمانة تربية أبنائهم من أي جانبٍ من جوانبها، لأن هؤلاء الأبناء هم عماد المجتمع وبناة المُستقبل، فإن أحسنّا تنشأتهم وتربيتهم، صَلحوا وصَلُح معهم المجتمع بأسره، ونكون بذلك قد أحسنّا لأنفسنا ولهم، وإن أسأنا فعلينا وعليهم.